عاطف بشاي
«السينما التى مازالت تقول «لا» هى السينما التى ترفض امتهان كرامة وحرية الإنسان.. وتفضح أساليب القهر والتسلط والإرهاب.. وتقاوم أى عبث بحق الإنسان فى حياة عادلة وأحلام ممكنة».

هذه الكلمات وردت فى مقدمة كتاب بديع هو «السينما مازالت تقول لا».. والذى يواصل فيه مؤلفه الناقد الكبير رءوف توفيق رسالته التى بدأها عام (1974) وعبر عنها فى سلسلة من الكتب السينمائية هى: «السينما حينما تقول لا» و«سينما الحب» و«سينما الزمن الصعب» و«سينما المرأة» و«سينما الحقيقة» بهدف الاقتراب من القارئ المهتم بفن السينما لكى يفتح أمامه مجالات أكبر لمعرفة تجارب واتجاهات من الفكر السينمائى العالمى.

والحقيقة أن الناقد لا يتوجه من خلال تلك الكتب الثمينة برسالته إلى المثقفين عمومًا، ولكنه يخاطب كل الإنسانية وكل البشر فى أى زمان ومكان..

وهو فى كل كتبه يختار مجموعة من الأفلام السينمائية العالمية التى تتجاوز الأبعاد الاجتماعية والسياسية والتعبير عن الواقع المعاش الملح إلى آفاق أكثر رحابة وعمقًا.. مؤكدًا على مواطن الجمال.. محللًا مناطق الإبداع.. كاشفًا لأغوار وملامح الشخصيات الدرامية.. مبحرًا فى نسيج تعبيرات الصور المرئية المتحركة.. وأحداث ومواقف وتحولات العلاقات البشرية التى يحتوى عليها البناء الدرامى.. وهى حكايات بالغة العذوبة والإنسانية.. والناقد يحدد هدفه بوضوح قائلًا: «اهتمامى الأول هو الموضوع وطريقة معالجته سينمائيًا.. فمهما تقدمت السينما تكنولوجيًا يبقى الموضوع هو حجر الأساس.. فالأفكار النبيلة هى التى تصنع الأعمال الباقية على مر الأيام.. هذه حقيقة لا بد أن نلمسها فى كل جوانب الحياة حولنا.. وهى حقيقة تتجسد بوضوح فى الفن».

يبدأ الناقد كتابه بتحليل الفيلم الإيطالى «الشرفة» الذى أخرجه «ابتورى سكولا» وفاز بجائزة السيناريو فى مهرجان كان 1980.. والفيلم يمثل ما يدور بين خمسة من الأصدقاء الرجال فى شرفة منزل أحدهم بدعوة لتناول العشاء.. والأصدقاء فى مرحلة خريف العمر.. وينتمى أربعة منهم إلى مهن سينمائية وخامس يعمل صحفيًا.. تجمعهم قصص ترتبط بالتغييرات النفسية والجسدية والاجتماعية والإنسانية التى وضعتهم فى أزمة «سن اليأس الاجتماعى».

المدهش فى الأمر ذلك التشابه الكبير بين حياة المنسيين والمقهورين بفعل زمن اليأس الاجتماعى الذين يعبر عنهم الفيلم مع حياة المهمشين والمهزومين والغرباء فى الواقع الفنى فى بلادنا فى الزمن الراهن.

فالقصة الأولى وبطلها كاتب السيناريو الذى اشتهر بكتابة سيناريوهات الأفلام الكوميدية التى تحمل رؤى ساخرة وعميقة المحتوى.. وأفكارا تعبر عن تناقضات الواقع.. ومثالب المجتمع.. وتعرى وتخلع الأقنعة عن شخصيات زائفة.. هذا السيناريست يعيش أزمة عصيبة فهو مطالب بكتابة سيناريو فيلم كوميدى هو خليط من الهلس والكوميديا الهابطة القائمة على المواقف التافهة والمبالغات الممجوجة والتهريج الرخيص.. تتفوق فيه السطحية على العمق.. والتفاهة على قوة المضمون.

يجلس إلى مكتبه.. ويضع الأوراق البيضاء على الآلة الكاتبة ويحاول أن يكتب.. دون جدوى.. والمنتج يطارده تليفونيًا.. وزوجته تتلصص عليه من باب الغرفة.. إنه لا يكتب وإنما يرسم بعض الوجوه بواسطة حروف الآلة الكاتبة.. يشعر الكاتب أنه فى منتهى التعاسة.. فهو غير راض عن نفسه ولا يمكنه أن يكتب هزلًا.. إن العجز عن الكتابة هو محصلة عدم قدرته على التكيف مع الواقع الجديد ومسايرته.. إنه رمز للعجز عن الحياة.. كان يعيش أحلامًا يجسدها فى سيناريوهات فأصبح القلم فى يده لا نبض ولا روح. كأوراق الخريف التى تتساقط معلنة الانسحاب من الحياة الخالية من أسباب وجودها.. ومعنى بقائها. تنتابه حالة من الثورة البالغة فيحطم كل شىء فى مكتبه.. ثم يضع أصبعه داخل البراية الكهربائية التى تبرى الأقلام الرصاص، فتفتت أصبعه وينقل إلى المستشفى.

شخصية أخرى لصحفى عجوز فى حالة إفلاس فكرى ومعلوماتى واجتماعى فهو يكرر ما يكتبه للجريدة التى يعمل بها.. ليس لديه سوى موضوع واحد يدور حوله كل يوم.. فيثير سخرية وتندر زملائه الشباب فى الجريدة.. لقد توقف فكره عن استيعاب الجديد.. فحالة الإنكار لديه تأخذ شكلًا ضد الحراك المجتمعى.. لأنه يكرهه ويزدريه.. ويرفض أن ينضوى تحت مظلته.

Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم