حين تحدثنا عن الفساد وتحوله الى جزء من حياتنا اليومية، وأنه أصبح جزءا مهما فى تكويننا الثقافى، لم يعن ذلك مبالغة فى تصوير حال حياتنا، ولا محاولة للتشويش على فساد رجال اعمال، أو الجهاز الإدارى أو خلافه، وإنما كان توصيفا حقيقيا لواقع نعيشه، ويتطلب جهودا مضنية، أكبر بكثير من تلك المبذولة على الأرض، لأجل محاصرته والتقليل من مخاطره وأضراره وتداعيات السلبية .

 
كل مخالفات البناء التى نصادفها فى حياتنا اليومية، وخلال تجولنا فى مدن مصر المختلفة، تعبير عن تفشى حالة فساد مرعبة، ظهرت وتجلت فى أبراج ضخمة « تخزق « عين الشمس، لكن الغريب أن عين المحليين لم ترها، وكل هذه التعديات على الطرق، والاستنزاف لموارد الدولة، وارهاق موازنات الدولة التى تنفق سنويا على تطوير المرافق والخدمات والبنية الأساسية، وإغراق المصريين فى مشاكل المياه والصرف الصحى وخلافه، كلها من دون مبالغة، انعكاس لحالة فساد كبرى، متورط فيها الآلاف من موظفى الإدارات المحلية، وغيرهم من المعنيين فى عموم مصر.
 
التعدى على الأرض الزراعية ايضا والبناء عليها، والاضرار بمساحة الرقعة الزراعية، وبالثروة الحيوانية، وبالانتاج الزراعى الوطنى، وأزماتنا فى الانتاج الزراعى الذى تراجع لفترة، ثم لجوئنا لاستيراد احتياجاتنا الغذائية، وارهاق احتياطى النقد الاجنبى واستنزافه، وارهاق ميزانيات المصريين على سلع مستوردة غالية، كل ذلك سببه الفساد، وعدم تصدى المسئولين، لمسلسل التعدى على الأراضى الزراعية منذ عشرات السنين، حين تجاهلنا كل ما حولنا ولم نلتفت لمخاطر ما يجرى.
 
الفساد لا يعنى تقديم رشوة أو تلقى رشوة، والفساد لا يعنى التورط فى جريمة محددة المواصفات، والفساد لا يعنى الحصول على هدايا أو منافع عينية، وإنما الفساد ايضا هو غض الطرف عن مخالفة القانون، وهو ايضا الإغفال عن القيام بواجبك، وهو ايضا التكاسل عن اداء وظيفتك ودورك كما ينص عليها القانون، لذلك فإن كل المتورطين سواء فى مخالفات المبانى أو التعدى على الأراضى الزراعية، هم هؤلاء المسئولون الذين تقاعسوا عن اداء عملهم، وعن حماية حقوق الدولة وحقوق الناس، بغض النظر عن تلقيهم رشاوى نقدية أو منافع عينية .
 
لكل واقعة فساد طرفين، راش ومرتشى، ولا يجوز التعامل مع طرف واحد فقط، أو محاسبة طرف واحد والتغاضى عن مخالفات الطرف الثانى، لذلك فنحن نحتاج الى تعديلات واضحة فى التشريع، لتحميل مسئولية المخالفات ليس على مرتكبها فقط، وانما وبوضوح كل من تسبب فى حدوثها، وتواطأ وتغاضى عن رصدها، وتقاعس عن اداء عمله، وساهم فى حصول المخالفة.
 
المسألة ليست بسيطة، ولا يجوز التعامل معها من زاوية «الغربال الجديد له شدة»، لأن كل ما تم انجازه فى السنوات الست الاخيرة من مشروعات، مهدد بمخاطر عديدة لو استمر الصمت على الاوضاع القائمة، وكل ما نجح الناس فى تحقيقه، وكل ما تكلفته هذه المشروعات الانشائية والغذائية، مهدد بالإهدار لو استمر الحال على ما هو عليه، أو لو تقاعسنا عن محاربته. ما نعانيه وما نواجهه من مشاكل فى جزء كبير منه مرجعيته وللأسف حالة فساد شعبى، ولكى تحقق الجهود المبذولة نتائج أكبر وأكثر تأثيرًا، نحتاج الى تصور لتوسيع دوائر مكافحة الفساد، وضخ دماء جديدة فى شرايين أدوات حديثة، تجعل من التجمعات الشعبية وسيلة لمحاصرة الفساد الشعبى.