فيفيان سمير 
هبطت من سيارتها الفارهة، التي تركتها على مسافة بعيدة من الحي العشوائي، الذي تأتى اليه خلسة من وقت الى اخر. مظهرها لا يتسق بأي حال من الاحوال مع المكان. رائعة الجمال، ممشوقة القوام، ثيابها انيقة تبدو غالية الثمن جدا رغم بساطتها، عطرها الساحر يسبقها، حتى حذائها الرياضي، الذي تغوص به في الارض المتربة غير المرصوفة، ماركة عالمية، طبعا لا يعرفها اهل الحي، الذين قد يعولهم ثمنه شهرا كاملا. 
 
مجيئها الغامض على فترات يثير فضولهم، ويطرح عشرات الأسئلة، التي تبقى بلا إيجابه في كل مرة تظهر فيها. ما الذي يأتي بمثل هذه الثرية المرفهة إلى تلك البقعة، التي لا تظهر على الخريطة، ببيوتها المتهالكة الأيلة للسقوط، تكاد تستند إلى بعضها البعض، فإن سقط أحدها تداعى الحي كله فوق رؤوس ساكنيه، الدائرين في ساقية الحياة بلا وعى. يلتف حولها صغار الحي، كما اعتادوا، وجوههم الصغيرة باسمة رغم الفقر والحرمان، ملابسهم رثة متسخة بالغبار الكثيف، الذي يغطى كل شيء ليبدو باهتا بلا لون، أقدامهم تكاد تكون حافية، وعيونهم البريئة تتعلق بالزائرة الغامضة. تنتقى من بينهم طفلة تشاركها وليمتها في مطعم عم سعيد، القابع على رأس الزقاق الضيق. العم سعيد هو صاحب عربة الفول والطعمية والمسؤول عن إطعام الحي، كلا حسب مقدرته، ويضع بعض الموائد والكراسي حول عربته التي استقرت في هذا المكان لما يزيد عن أربعين عاما. 
 
طلبها في كل مرة لا يتغير، ساندويتش طعمية دوبل وطبق باذنجان مقلى بالخل والثوم وطبق بطاطس صوابع كبير، بالإضافة لطلب ضيفتها الصغيرة حسب رغبتها. في هذه المرة كانت ضيفتها جميلة الوجه، عينيها بلون السماء، تشع ذكاء وحياة، تشبه مضيفتها إلى حد كبير، ربما لو اغتسلت وارتدت ثوبا نظيفا لقولت أنها أبنتها، لكنها كانت مشاغبة كثيرة الكلام والأسئلة. 
 
الصغيرة: أسمك أيه يا طنط؟ 
طيب بتشتغلى أيه؟ 
ساكنة قريب من هنا؟ 
تعرفى حد ساكن عندنا؟ 
أنت جميلة قوى وشعرك حلو ورحتك حلوة بتعملى أيه عشان تبقى حلوة كدا؟ 
أنا عاوزة أكون حلوة زيك 
مش بتكلمينى ليه؟ 
 
كانت تسمعها وكأنها تسمع صوتها هي، تنظر في عينيها فترى صورتها وهي في مثل سنها، واقفة على أطراف اصابع قدميها، مادة يدها لعم سعيد ببضع قروش وفى اليد الأخرى طبق صغير ليضع فيه الفول، الذي تحمله لأسرتها المكونة من خمس أخوة وأخوات غيرها ووالديها، تضعه على ارض الغرفة، العارية من الاثاث تقريبا، يلتفوا حوله وتمتد الأيدي الكثيرة، فربما غمست قطعة الخبز في الطبق وربما أكلت الخبز بدون غموس، لكن في كل الأحوال تبقى نصف جائعة. يتكرر المشهد في الليل، حين يعود الجميع من أشغالهم الشاقة إلى الغرفة الصغيرة، التي تضيق بهم. في كل مرة كانت تشتم رائحة الطعمية يسيل لعابها، وكم تمنت أن تشترى ساندويتش طعمية بدلا من طبق الفول، الذي بالكاد تذوقه، سنوات وسنوات إلى أن رآها مصادفة مصمم أزياء وهي في السابعة عشر من عمرها، باهرة الجمال كالشمس، ملفوفة القوام تتفجر أنوثة وجاذبية رغم مظهرها البائس البسيط. كانت حادة الذكاء فتشبثت بالفرصة، لم تدعها تعبر إلا وكانت قد عبرت معها إلى عالم أخر لم تره من قبل، ولم تجرأ حتى على أن تحلم به. تغيرت حياتها، أصبحت عارضة الازياء التي ترتدي أفخر الثياب، وتضع أغلى العطور، جلست إلى أفخم الموائد، التي تزخر بكل ما لذ وطاب، حتى بأصناف لم تسمع عنها من قبل. أكلت بنهم من كل ما وضع أمامها، رغم النظام الغذائي الصارم الذي تلتزم به لتحافظ على قوامها، بابها السحري لعالمها الجديد. رغم مرور عشر سنوات على تغير حياتها وانغماسها في كل مظاهر الترف، إلا أنها ظلت تتوق للوجبة الوحيدة التي اشتهتها ولم تتذوقها حينها، الرائحة التي داعبت حواسها وسكنت اللاوعي. تحضر خصيصا لنفس المكان، حيث جازت كل صنوف الحرمان، كمن تشهده انها لم تعد محرومة، كمن تعيد المشهد لتغير تفاصيله. تجلس ويقوم العم سعيد بخدمتها، تطلب ساندويتش الطعمية وأكثر، تأتى بطفلة لتطعمها ما تشتهى، كمن تعتذر لطفولتها الشاقة، كمن تمحوا في كل مرة سطرا من كتاب حياتها السابقة لتبدل ملامحها. 
 
أتى عم سعيد بالطلبات، وضعها على المائدة وكرر سؤال كل مرة: 
 
"اشعر انى اعرفك لكن لا اتذكر اين قابلتك كانت هيئتك مختلفة كنت شبهنا" 
 
ابتسمت، طبعت قبلة على جبين طفولتها المحرومة في الصغيرة، وبدأت تلتهم وجبتها منتشيه بإشباع شهوتها التي لا تنطفئ.