قصة قصيرة – تأليف روماني صبري 
 
يدخن الشاب بطل قصتنا، الكثير من التبغ ولا يتبادل معه حديثا على ارض الواقع، بل يفعل ذلك حين يتمادى في خياله، ولو كان يستطيع هذا لقضم أصابعه نشوة، فحتى هذا الإنسان الصلب الجبان المعتوه جريح الروح الذي قرر الاستلام بمحض إرادته، لسرعان ما يتكيف مع أي شيء جديد دون أن يتملص منه طالما يستعين بخياله، يفعل ذلك ليبقى كل شيء على ما يرام عبر تحسينه لا من اجل التسلية، وفي وقتنا الحالي لم يعد يفترض انه مميزا، وليس السبب وراء ذلك أن غالبية طلباته التي رفعها لله في صلاته لم تتحقق منذ أن كان في العاشرة من العمر، فهو لا يزال يتذكر انه اختص خالقنا ذات يوما قائلا :" اصنع معجزة لتشفي والدتي من مرض السرطان اللعين." 
 
 ها قد انقضت ساعتين وهو غارق في نوم عميق، يقول أن النوم مخدر لذيذ كالطعام والتخيل، الآن يفيق من نومه، ويثب بهدوء من فراشه، بعد دقيقة راح يقول في نفسه:" رايتها زوجتي في حلم جميل كانت تحضنني بشدة :" حسنا ها أنا قد عقدت العزم لأتزوج صاحبة المسكن، نعم هذا يروق لي الآن، وليس ثمة ضرر كونها تكبرني بعشرون عاما، رغم إني اعلم كل العلم أن شعوري بعدم الاحترام لنفسي سيتفاقم بعدها، حيث سيقول سكان المنطقة : الحقير النذل تزوجها طمعا في منزلها المتهالك وأرضها، وقد يستبد غضب وحنق شديدان بأحدهم فيأخذ يبصق في وجهي وهو يختصني أمام المارة بأبشع الشتائم
 
في اليوم التالي أعددت له "عفاف"، صاحبة المسكن التي لازالت تحتفظ بالكثير من الجمال، وجبة عشاء شهية كالعادة، تشمل الكثير من قطع اللحم والدجاج إلى جانب الأرز الغارق في السمن البلدي، وبعد الأصناف الأخرى، فهي تدرك مشقة أن تكون عاملا في مصنع الغزل والنسيج المستطيل بالمدينة، كون والدها كان يعمل به، وكان يعاني من ضجيج الماكينات الضخمة حتى كاد يصاب بالصمم، وليترجم آلمه هذا راح يبصق على ماكينته تحت بصر الجميع، يوم خروجه على المعاش، حقا كم كان سعيدا وقتها، بعدوانه العنيف تجاه الماكينة، على أي حال انه في النهاية إنسان، فليرحمه الله ويرحم جميع من غادروا، وفيما تضع صاحبة المسكن الأطباق على صينية فاخرة من الاستانلس ستيل، سكنتها فرحة لا حدود لها، انتهت فراحت تنزل الدرج على مهل، وحين وصلت باب شقة الشاب أخذت تطرقه وهي تقسم داخلها أن تظل تقدم إليه خدماتها حتى تعرفه السعادة.
 
 دعونا نقول أن "الاهتمام بالآخرين فردوسا يخلقه الإنسان على الأرض"، فتح لها صاحبنا وعلى الفور راح يختلس النظر إليها، وهو يحمل عنها الصينية، ثم اخذ يرجوها أن تدخل شقته ليتبادلا سويا أطراف الحديث، فلبت بعد إلحاحه الكثير، وقلبها ينبض خوفا من الشائعات التي ربما يتداولها الناس إذا أبصروها تدخل سيدة شقة احد العزاب، حيث سيقسمون وقتها أن الشيطان جعلهما يمارسان الجنس مرارا في نفس الليلة، كان اشترى الشاب أريكة مستعملة حديثا، وضعها بصالة الشقة ذات المساحة الصغيرة، وهي من جلست عليها، أما هو فجلس على كرسيا قديما فبات وجها لوجه معها.
 
استهل حديثه قائلا :" بالأمس غرزت إبرة في إصبع قدمي الكبير، ولا ادري لماذا فعلت ذلك، حتى أبصرت الدماء تتدفق منه فقلت :على أي حال يبدو أن الوحدة تذهب بنا صوب الجنون، فردت عليه :" نعم استنتاجك أصاب حقا، ولكن لماذا لا تأكل أتشعر بالخجل حين تتناول طعامك في حضور الآخرين، فأجاب :" لا لا لا أنا لست من ضمن هؤلاء الناس، لكني مللت الوحدة.
 
قالت : حسنا ادخل في صلب الموضوع، فرد :" دون لف أو دوران، أنا احبك، تزوريني كثيرا في أحلامي مؤخرا، بالأمس قلت لك  جراء حبي لك اكسبيني حبيبا وصديقا إذا وأنا أحلامي دائما ما تصيب، لتغرق بعد ذلك في خجل شديد، أما هو فواصل الحديث بشجاعة يحسد عليها قائلا :" لا يجب عليك أن تقعين في الدهشة والعجب، من غيرك رحم ضعفي وفقري، أنا أدرك انك تعاملين الجميع مثلي حيث تقدمين لهم خيرك وكرمك طمعا في الجنة، لكن لا يمكنك إنكار انك تضعينني في مكانة مختلفة دونا عن سائر السكان، عينيك تقولان ذلك، تقولان انك تبادلينني الحب أيضا، فمن المستحيل ألا تصيب أحلامي أيضا !." 
 
- ومتى وقعت في حبي أيها الطفل ؟ 
- منذ 3 أيام، أرجوك صومي عن إهانتي 
- هل كوني ميسورة الحال ؟  
 
- لا هكذا تواصلين إهانتي، رغم إني علمت منك ومن السكان  انك تملكين ارض شاسعة في الشرقية، أتدرين بعد الزواج سأفلحها لك بفأس سأشتريه من حر مالي، وقتها لن يعرفني اللهاث ولن تتسارع نبضات قلبي فأنا لازلت شابا صغيرا، الله وحده يشهد أن بداخلي كل خيرا تجاهك.
 
- حقا لماذا اعتنيت بك دونا عن سائرهم ؟، ولكن مهما يكن من أمر لا يعني ذلك إني واقعة في حبك، لبث صامتا ما يقرب من عشر  ثوان، ثم راح يقول وهو يبكي :" أتخشين أن افصل راسك بفأس الفلاحة بعد زواجنا لأرث كل أملاكك، فقاطعته :" لا لا أمثالك لا يعرفون القتل، فأنت تظهر ضعيفا جدا وتصارع من اجل البقاء على قيد الحياة مثل الجميع، كذلك تعيش داخل دائرة الصعبانيات مثلنا.
 
مردفة :" أخبرتني أن الدنيا اضطهدتك حين ماتت والدتك بالمرض الخبيث، وكذا حين اجبر والدك شقيقتك على الزواج من رجل يكبرها بثلاثون عاما لتتكبد بعدها الكثير من المعاناة، ما جعلك تغادر المنزل الذي استحال إلى نوعا من العذاب والعقاب، بعدما فكرت في أن تنهال ضربا على رأس زوجة أبيك الشابة لتعاقبه، لكنك فشلت،لكني أيضا أكبرك بالكثير من السنوات، وحتى وان وقعت في حبك من المستحيل أن اقبل بذلك الزواج، فالحيض قد انقطع، عزيزي الم اقل لك إنني في أواخر الأربعينات من العمر، حقا لو كان الحب موجودا فلن يعالج ذلك، اعدل عن تلك الأفكار، وتناول عشاءك.
 
نهضت السيدة النبيلة وراحت تمسح دموعه بأصابعها وهي تختصه بالقول :" ليكن الله معك، وقبل أن تواصل دعاءها له قاطعها قائلا :" لا لا توقفي عن ذلك .. وجب عليك طردي الآن، وبعدها اجري اتصالا هاتفيا بوالدي ساترك لك رقمه لتقولي له :" ابنك لكم يتمتع بأشد السفالة والانحطاط، الحقير يريد الزواج بي طمعا في أملاكي، هيا دعيني أحول فشل خسارتك لنصر، أغلقت فمه بيدها وهي تتثاءب قائلة :" ساصلي لك كثيرا حتى تتكيف مع واقعك ولا تعيش في الخيال، فكثير من الناس يقعون في تجارب قذرة دميمة ويتجاوزنها، أما أنت فصلي لي أيضا، حيث أنا الأخرى أجرمت في حق احدهن بعدما تزوجت زوجها عرفيا منذ ثلاث سنوات، ولتعلم إنني في الغد ساعد لك المحشي الذي تحبه." 
 
الإنسان يتغير، وجاحد من ينكر حقيقة هذا، مضت أيام كثيرة، فاليوم راحت عفاف تفتح نوافذ غرفتها، بعدما انتهت من كنس الشقة، وظهرت في كامل أناقتها تغني بصوتها الرقيق " على قد الشوق اللي في عيوني يا جميل سلم، سلم، أنا ياما عيوني عليك سألوني و ياما بتألم، ترررررا ، وبخاف لتصدق يوم ل الناس واحتار، بوصف للناس الجنة وأنا في النار، غالي علي و ضي عينيا ارحم عذابي معاك، ثم ضحكت وراحت تقول في نفسها :" ياه معقول رجعت أدندن تاني، الله يحرقك يا عبد العظيم ويسامحك، كنت مانع عني الحياة ، فكرتك راجل بجد، واجدع عربجي شفته، عشان كده قبلت أتجوزك على مراتك الشابة، بعد وفاة جوزي، أخيرا خلصت منك وهتجوز سمير، تقصد الشاب الصغير بطل قصتنا !، نعم فقد افلح في أن يوقعها في حبه، ويشهد الله انه بات يحبها بصدق، ليس لكونها نجحت في جره من العيش في الخيال، وهي ترى انه أحبها لأنه لم يجد غيرها، فالمصنع يخلو من الفتيات الصغيرات، ومرد ذلك إلى صاحبه شديد التدين السيد زغلول رشدي، فهو يقول ان أجسادهن تجلب المصائب لإثارتها الشباب والرجال.
 
في نفس اليوم، قصد عبد العظيم العربجي، بعربته الكارو، منزل خالد رشدي شيخ الحارة التي تسكن بها "عفاف"، وكان مرتديا جاكتا اسود فوق عباءته كالعادة، راح يدخن سيجارته بغيظ شديد ويبصق الكثير من البلغم محمر العينين، يقول :" يا بنت الكلب ياعفاف، يا بنت الكلب ياعفاف، وحين اجتمع مع الرجل في شقته، استهل حديثه قائلا :" عفاف بنت الكلب، طلبت الطلاق، يا سيدنا، وطلقتها.
 
ـ طلقتها !؟، 
ـ طلقتها، ... آخر مرة جيت أنام معاها تفت في وشي قالتلي مش بالغصب، دي اللي قلت عليها هتصونك يا عبده، أتجوزها دي وارثة بيت وارض من جوزها المتوفي وهتكون عون وسند ليك؟!
 
ـ طب وإيه اللي غيرها ناحيتك ؟
ـ من أول يوم جوازنا وهي كرهتني، قالتلي مش مستعدة نفسيا إني اعمل معاك علاقة، بس انا اصريت، مش ده حقي ولا ايه يا سيدنا ؟ 
 
ـ طبعا حقك، وبعدين ؟
ـ كانت بتجيني الشقة اللي أجرتها في شبين 3 أيام في الأسبوع، من فترة قطعت، قلت أراقبها، أديت فلوس لساكنة عندها، فريال على قد حالها وأنت سيد العارفين، عشان تراقبها وعرفتها إننا متجوزين ومخبيين عشان مراتي الأولى، رغم مكنش هيفرق معاها ، بعدها بكام يوم قالتلي شفت عفاف بتدخل بصينية الأكل شقة سمير، الأول كانت بتديهاله من قدام باب الشقة زي ما بتعمل مع الحاج سعيد العازب اللي ساكن في الأرضي، والموضوع أتكرر، لحد ما في يوم طلبت الطلاق، وطلقتها، لان ده أكدلي أنها زنت مع الواد العرة ده، وثب خالد منصور وولاه ظهره وكأن شر العالم حل بروحه.
 
 
احتشد أهل الحارة مساء اليوم أمام منزل عفاف، وكان يقف في الخلف خالد رشدي وطغى عليه هدوء شديد، راح يصرخ الكثيرين منهم رجال ونساء في صوت واحد " الموت لعفاف الفاجرة، وحين سمعتهم بطلتنا انتفضت فزعة وسرعان ما انطفأ كل شعور جميل داخلها، وصاحت :" ماذا يحدث، ماذا يحدث، الله أنقذني"، شق الحشد الشاب مصطفى رشدي، وهو يمد يده في جيب بنطاله ليخرج سلاحا ابيض، ثم اتجه وهو في كامل وعيه صوب باب منزلها، يقول  للجميع :" أنا من سأنفذ وليشنقوني بعدها، فقتل فاجرة بالدنيا وما فيها، ثم راح يدفع الباب بقوة بقدميه وجسده حتى كسره بمساعده آخرون، وبعد مرور دقائق كان الشاب يبلل وجهه بالماء الذي كانت صبته عفاف لنفسها في كوبها الخاص حيث افرز الكثير من العرق، مختصا إياها بالقول وهو في غرفتها :" هذا عقاب كل من تزني يا فاجرة، ومع من شاب صغير ألا تخجلين من نفسك، كانت البريئة تتأوه من الألم فالسكين مغمود في رقبتها، أخذت تقول بصوت ضعيف متقطع :" الله الذي لا اله إلا هو، يشهد إنني لم ازني مع يوسف، فقط كان حضنا بعد الطلاق بعدما اتفقنا على الزواج، نعم أنا كنت متزوجة وأسال شيخ الحارة، توقفت ثوان وعادت تقول :" اعلم أن الله سيأتي لينقذني منكم، فيتم زواجنا رغما عنكم، فانا أحب هذا الشاب حبا جما وهو كذلك، بعد مرور دقيقة كانت أسلمت الروح، أما يوسف فكان يعمل على ماكينته، متمنيا انتهاء يوم العمل ليظفر بابتسامة ووجبة دسمة من وجبات عفاف رحمها الله، ووسط هذا الضجيج ارتمى على الأرض وجلس القرفصاء، ثم ومضت فكرة بعقله، فاخذ يقول لنفسه :" سأقترض مهما كانت الفوائد لابتاع لها سلسلة ذهبية، حقا ستجمل رقبتها الجميلة أكثر، الله اكتب لنا السعادة سويا، الله أتوسل إليك لا تجعل الخيبة تعرف حياتنا، يكفي مرارة تجاربنا السابقة، أنا أحبها، من غيرها وهبني حياة جديدة، أحبها رغم مرارة الشعور كوني لن استطيع الإنجاب منها، ليسعدك الله يا عفاف، أنت مثلي لا احد لك في الدنيا، والدك وغيبه الموت بعدما زوجك عجوز ميسور الحال لا ينجب لترثيه"، قال هذا ثم أغمض عينيه، وبعد ثوان فتحهما بمحض إرادته، فإذا به يبصر الكلب الشرس المعني بحراسة المصنع، وهو يذرع صالة النسيج طولا وعرضا، باشمئزاز كعادته، فضحك مختصا إياه :" "جنزير"، في يوم عملي الأول تجمدت في مكاني رعبا منك وكدت اصرخ، الآن أصبحنا أصدقاء"، كان يقول ذلك والكلب يركض صوبه وكأن لا أحد في المكان غيرهم!، فاستقبله يوسف بحضن ترجم حبه له، ثم همس في أذنه " يوسف يحب عفاف كثيرا يا صديقي "
 "النهاية"