كتب : ألفى شند
  انصرف المسيحيون  الاوائل عن الفلسفة اليونانية، واعتبروها مغايرة لعقائدهم ،  مثلا فالكون فى الفلسفة اليونانية غير مخلوق، و قديم قدم الله نفسه . من ناحية أخرى، فالمسيحية دين وحي يقوم على الإيمان لأجل الفهم ، ومرجعيته  الميتافيزيقية محددة ومثبتة حسب نصوص الكتاب المقدس وهو ما يتنافى مع  الفلسفة التى تقوم على البحث الشخصي المستقل الحر عن الحقيقة .

أمام هذا التناقض  حث المعلمون الأوائل  الانسان المسيحى  أن يصدّق الوحي الإلهيّ بقلبه حتّى لو امتنع العقلُ عن هذا التصديق حتى  يستقيم للعقل من هذه الاباطيل الرائجة ، كى ينشط الإدراك الصائب. وتحذير بولس الرسول وأضح  "أياكم وان يخلبكم أحد بالفلسفة ، بذلك الغرور الباطل القائم على سنة الناس وأركان العالم ، لا على المسيح" (رسالة بولس الرسول لأهل كولو سي 2: 8 )  . ازدادت المقاطعة بعد مجمع نيقية عام ٣٢٥م الذي أعطى الديانة المسيحية شكلا مقننا وموحدا  يعتبر كل عقيدة مخالفة هرطقة .

بمرورالوقت، وجد آباء الكنيسة الاوائل  أنفسهم فى الحاجة الى التسلح بالحكمة العالمية ، و بلورة منظومة لاهوتية للإيمان المسيحى على قدم المساواة مع الفلسفة في مقابل ما جاء في كتب الفلسفة،.   فعلى سبيل المثال رأوا في فلسفة  أرسطو عن الجوهر والشكل ما يصلح لشرح  تجسد المسيح رمزيا في  سر القربان المقدس .

 إنقسم  آباء الكنيسة إلى فريقين ازاء استخدام المفاهيم الفلسفية فى شرح العقيدة المسيحية ،فريق رأى أن العلوم القديمة من فلسفة وآداب وثنية، تفيد المسيحية، وأن أغلب تلك العلوم يؤيد تعاليم الكتاب المقدس، وأن الفلسفة ما هي إلا البحث عن الحقيقة التي استقرت في العقيدة المسيحيّة، وان قول القديس بولس الرسول في كولوسى 8:2 (انظروا أن لا يكون أحد يسيبكم بالفلسفة وبغرور باطل حسب تقليد الناس حسب أركان العالم وليس حسب المسيح)، تبدو  لأول وهلة أن المسيحية ضد الفلسفة، وضد طلب المعرفة،. لكن من يركز في كلام بولس الرسول يفهم أنه ليس ضد الفلسفة ولا حب المعرفة، ولكنه هنا يتكلم عن التعاليم الباطلة؛ فالفلسفة هي حب الحكمة والله هو الحكمة الحقيقية.

  أغلب أنصار هذا الفريق كان من فلاسفة مدرسة الإسكندرية ، وقد كان من الطبيعي بعدما أمنوا بالمسيحية ان يستغلوا علمهم في خدمة دينهم الجديد، خاصة أنهم كانوا يمارسون التدريس، ومن هؤلاء "جوستين" الذي كان أستاذاً للفلسفة، وبعد أن دخل المسيحية ظلّ يبشّر بتعاليم أفلاطون، ويدَّعي أن أفلاطون وسقراط وهيراقليط كانوا مسيحيين قبل أن يظهر المسيح، وأن الفلسفة كانت تسعى إلى أن تصل إلى ما وصلت إليه المسيحية ، مدعمون رأيهم   بمقولة للقديس اوريجين التي تقول :" بان الله خلق الانسان على صورته ومثاله ( طلقا لقول الكتاب المقدس)، فالعقل الانسان هي صورة الله في الانسان  . اذن العقل وانتاجه الفلسفى اعلى من اي سلطة في تحديد المعرفة والحقيقة" .

وفريق ثان من أباء الكنيسة اللاتينية رأى أن التوفيق بين الحقيقة المسيحية وبين التعاليم الدنيوية أمر مستحيل، وأن الفلسفة إذا اقترنت بالمسيحية أدت إلى الضلال والإلحاد. وأنّ الأدب والثقافة على العموم لا يمثلان إلا مباهج الحياة الدنيا ومغرياتها، وأن أولئك الذين يدرسون أساطير "هومر" وقصص "زيوس" والآلهة لا يكتسبون منها إلا رجساً، من هؤلاء "ثيرتولبان" (150-230م) حيث كان يعتبر أن الدراسات اليونانية إلحاداً أو زندقة، وأن الفلسفة وراء ما دخل المسيحية من ضلالات وبدع غنوصية.

انتصر  الفريق الاول ،  لوجود إرتباط وثيقة بين علم اللاهوت والفلسفة . فالفلسفة تعنى لغويا محبة الحكمة ، الفلسفة تبحث عن الله العلة الأولى وقد تبحث عنه فى الكون والطبيعة لتصل بين النسبى إلى المطلق أو من الوجود إلى الجوهر  فيما يعرف بالفلسفة الفيزيقية (أو الفلسفة الطبيعية ) وتبحث أيضاً عن النفس والموت والحياة الأخرى وتسمى هذه الفلسفة بالفلسفة المتيافزيقية ( أو ماوراء الطبيعة ).

لذا تعد ددراسة الفلسفة أمرا ضرورىا للتأهل لدراسة اللاهوت  فى الكليات الاكليريكية. وأيضاً لأن الفلسفة هى أم العلوم كلها وكل علم ندرسه إنما تدرس فلسفته وأفكاره .

خلال القرون الأربعة الأولى  بلور آباء الكنيسة  مبادئ العقيدة المسيحية ،و صيغت فى قانون يعرف باسم "قانون الايمان"  وفى منظومة لاهوتية تقوم على المنطق والبرهان ، وحل اللاهوت محل الفلسفة التي فقدت استقلاليتها في العالم المسيحي فى القرون الوسطى ؛ وتحولت إلى مجرد ذراع للدين، أو كما يقولون خادمة مطيعة للعقيدة المسيحية .

استخدمت الفلسفة فى خدمة  شرح العقيدة المسيحية بواسطة رجال تشربت ثقافتهم الفلسفة اليونانية، وأول أولئك القديس بولس الذي كانت تربيته هيلينية ، مألوفة لديه كتابات سينيكا وإبيكتيتوس.  وكان من الطبيعى أن تتسرب بعض العبارات الرائجة فى ذلك الوقت الى مواعظه وكتاباته. فقد وؤد فى سفر أعمال الرسل ، ان بولس حاور الفلاسفة في أريوس باغوس بسبب معرفته لكتابات اليونانيين (أعمال الرسل 17: 28)، أيضا  يشار انه اقتبس كلمات فيلسوف كريتي لشرح ما يقوله في رسالة تيطس (تيطس1: 12) .مع  إنه كان يرى أن الإيمان يكفي نفسه بنفسه.

 تعمقت العلاقة بين الفلسفة واللاهوت بواسطة مدرسة  الإسكندرية وعلماءها من أمثال اقليمنضس الإسكندري والقديس جوستين الشهيد وأوريجانوس الذي تأثر بمنهج فيلون والفسفة الأفلاطونية المحدثة.  وتبدو أثار استخدام الفلسفة فى الفكر المسيحى  مبكرا  في تعبير "المسيح لوجوس" أى الكلمة فى الإصحاح الأول من  انجيل يوحنا. وهو الإنجيل الرابع الذي يرجح أن يكون قد كتب في نهاية  القرن الأول الميلادي . وفى  التعبيرات الفلسفية  الواردة  فى رسائل بولس الرسول في لهجتها ومضمونها . ويقول الباحثون أنها قريبة الشبه فى الاسلوب برسائل "سنكا "ومقالات "ابكتيتوس"، وليس ذلك بالمستغرب ، فقد نشأ بولس الرسول ببلاد طرسوس في وسط شاعت فيه الأفكار الرواقية .

وهناك من  رأى ان الفلسفة ، كانت تمهيدا للإنجيل ، وأن بعض الفلسفات هي «لاهوتٌ حق»، ، ففد رأى اقليمنضس الاسكندرى ان "الفلسفة أُعطِيت مباشرة من الله لليونانيين إلي أن يتم الله الكلمة (المسيح)  . .والكثير من الأفكار والحكم اليونانية الكلاسيكية تبدو كأنها نبوات عن الحقائق المسيحية .
الفلسفة كانت لليونانيين مثل الناموس الذي قاد العبرانيين إلي المسيح".‏  ويذكر كتاب تاريخ للمسيحية الاولى  ‏‏:‏ «كان علماء الماورائيات المسيحيون يصفون اليونانيين الذين عاشوا في العقود التي سبقت مجيء المسيح بأنهم كانوا يجاهدون بعزم لكن على غير هدى لمعرفة الله،‏ محاولين مجازيا ان يبتدعوا يسوع من فكرهم الاثيني الفارغ،‏ وأن يخترعوا مسيحية من خيالهم الوثني الضعيف».‏

وقد أدى تطويع الفلسفة لحدمة شرح العقيدة المسيحية  الى ظهور الفلسفة المسيحية التي تصهر العقل والوحي في آن  واحد. فقد جاء فى موسوعة أباء الكنيسة الجزء الأول صفحة 16 مانصه : "لقد وضعت الفلسفة اليونانية الأساس الطبيعى لعلم الاهوت .  وواستخدمت البلاغة اليونانية أستخدمت فى الخطابة الكنسية وكذلك الفن الاغريقى لخدمة الايمان المسيحى .

 ومن أشهر الفلاسفة المسيحيين القديس اغسطينوس ، والقديس توما الاكوينى وكلاهما من كبار الفلاسفة حيث يحتل توما الاكوينى  قمة هرم الفلسفة بعد ارسطو  ، وأعظم من ايمانويل كنت وهيجل. ، وهو الأب الروحى للفلسفة الحديثة ، وأبرز من شرح اللاهوت بالفلسفة الأرسطية وعندما أعاب عليه اللاهوتى الفرنسيسكانى "بونافنتورا" خلط ماء العقل (الفلسفة) بخمرة الحكمة الإلهيّة (اللاهوت)، رد عليه الاكوينى بأنّ الماء لا يلبث أن يتحوّل إلى خمر، على نحو ما جرى  فى أول معجرات جرت على أيدى يسوع فى عرس قانا الجليل.  وانه لا أحد يمكنه ان يصل إلى الحقيقة ، مالم يتفلسف فى ضوء الإيمان . وتضم قائمة الفلسفة الحديثة أسماء عديدة  من اباء الكتيسة وفلاسفة مسيحون اخلاقيون وفلاسفة مسيحيون وجوديون، مثل أوغسطينوس، وتوما الأكويني، وفرانسيس بيكون، توماس بروان ،  باسكال، حون لوك ، وهوجو جروتيوس، إيمانويل كانت ، جورج فيلهلم فريدريش هيجل ، وجان كالفن، وسورين كيركجارد، كارل بارث، ، مارسيل جبرائيل ، جورج بيركلى ، وغيرهم ...

وما ارتكبه الجماعة المسيحية الغاضبة التى لم تكن تشبغت بعد  بالروح المسيحية  فى حق الفيلسوفة الاسكندرانية "هيباتا" فى القرن الرابع ، وذكره الكاتب "يوسف زيدان" في روايته " عزازيل "إلى جانب فيلمٍ كاملٍ عنها بعنوان " آغورا " عُرض في سنة 2009 . ،  لم يكن بشهادة كثيرين من مؤرخى مدرسة الاسكندرية كراهية للفلسفة او بسبب افكار "هيباتا"  عن  طبيعة الالهة ، وطبيعة الحياة فى الاخرة  ، إنما بسبب ايعازها لوالى الاسكندرية الرومانى الذى كانت مقربة اليه ومسحورا بجمالها اضطهاد المسيحيين ، ووقوفها وراء تعذيب عدد من رجال الدين . بجانب دعمها  الوالى الرومانى ضد كيرلس الاول بطريرك الاسكندرية .

ولاتتقبل المسيحية بعض الكتابات الفلسفية العدمية مثل فلسفة ما بعد الحداثة التى ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين، وتلاشت بسرعة .  وهى فلسفة   نقدية عدمية ، تدعى نسبية صحة كل شىء في القيم، والاخلاق،  والأديان، ومن أشهر رموزها : مارتن هيدجر ، ومشيل فوكو، وجان دريدا.