د.جهاد عودة
مثلت نهاية القرن التاسع عشر، بداية تزايد اهتمام الألمان بالقوة البرية ، ففي ظل هذه الاجواء التي طبعت هذه الحقبة جاء فريدريخ راتزل " Friedrich Ratzel " أستاذ الجغرافيا بأول صياغة للجغرافيا السياسية. فريدريك راتزل (1844 - 1904م) عالم احياء ، وجغرافي، وعالم حيواني، وعالم سياسة، وأستاذ جامعي ألماني في جامعة لايبزيغ Leipzig  . صاحب كتاب  الجيوبلوتكس ويعتبر المؤسس الأول لعلم الجغرافيا الحديثة، درس راتزل في هايدلبرغ سنة 1868م علم الحيوان والجيولوجيا والتشريح، له كتابه جغرافية الإنسان، كتب عن العوامل التي تتحكم في توزيع الإنسان في الكرة الأرضية. وقدم مفكره :  ديناميكية الدولة كالكائن الحي .

في منتصف القرن السابع عشر كتب وليام بني وهو طبيب بريطاني كتابا أوضح في كثير من البراعة العلاقة بين الدول ونظمها ونموها وبين ظروف البيئة الجغرافية، فقد تكلم عن المساحة المثالية للدولة التي تستطيع أن تسيطر عليها وتبسط نفوذها في أرجاء هذه المساحة، ويمكن للسكان استغلالها على الوجه الأكمل.  وفطن إلى أهمية المدن الكبرى في ربط وتوجيه السكان نحو مراكز القوة والجذب في الدولة.  وذكر أهمية كثافة السكان وغنى الدولة وانتشار العمران حتى تصبح الدولة وحدة سياسية متماسكة في الداخل وقوة لها اعتبارها ونفوذها  في الخارج. وبعد وليام بني بقرنين صدر كتاب  الجيوبلوتكس (Politische Geographie)   فى  1897الذي ألفه العالم الجغرافي الألماني فريدريك راتزل F. Ratzel .  ويعد هذا أول كتاب منهجي في الجغرافيا الحديثة يتناول الموضوع السياسي من الجغرافيا.  إذ إن راتزل قد اعتبر الجيوبلوتكس جزءا لا يتجزأ من ميدان  نمو الدوله ، وقد نشر راتزل مقالا بعنوان : القوانين السبعة للنمو الارضي للدولة.  وهى :

1- إن رقعة الدولة تنمو بنمو الحضارة الخاصة بالدولة، فكلما انتشر السكان وحملوا معهم طابعًا خاصًّا للحضارة فإن الأرض الجديدة التي يحتلها هؤلاء تزيد مساحة الدولة.2 -  أن نمو الدولة عملية لاحقة لمختلف المظاهر الخاصة بنمو السكان ذلك النمو الذي يجب أن يتم قبل أن تبدأ الدولة بالتوسع، أن العلم — الراية — يتبع التوسع التجاري. 3- يستمر نمو الدولة حتى يصل إلى مرحلة الضم وذلك بإضافة وحدات صغرى إليها. 4- أن حدود أي دولة هي العضو الحي المغلف لها والذي يحميها — الحدود لا توضح سلامة الدولة فحسب، بل إنها أيضًا توضح مراحل نموها. 5- تسعى الدولة في نموها إلى امتصاص الأقاليم ذات القيمة السياسية، بمعنى أن هذه الأقسام إما أن تكون سهولًا أو مناطق ساحلية أو مناطق تعدينية أو ذات قيمة في إنتاج الغذاء. 6- أن الدافع الأول للتوسع يأتي للدولة من الخارج، معنى هذا أن الدولة الكبرى ذات الحضارة تحمل أفكارها إلى الجماعات التي تدفعها زيادة عدد السكان إلى الشعور بالحاجة إلى التوسع. 7- أن الميل العام للتوسع والضم ينتقل من دولة إلى أخرى ثم يتزايد ويشتد.

إن راتزل يرى في الدولة كائنًا حيًّا تدفعه الضرورة للنمو عن طريق الحصول على  موارد تعوزه، حتى ولو دفعه هذا إلى استخدام القوة، وهذا الرأي هو نظرة بيولوجية بحتة للدولة. وفي كتابه « الجيوبلوتكس » كان فريدريك راتزل أول من درس علاقات المكان والموقع دراسة أصولية للدول المختلفة، ولهذا السبب وحده يعد راتزل مؤسس  الجيوبلوتكس عن جدارة. ولقد كان راتزل يكتب متأثرًا بالجو العلمي العام المشحون بكل ثقل النظرية التطورية في العلوم الطبيعية، ولهذا نراه ينظر إلى  الجيوبلوتكس على أنها فرع من فروع العلوم الطبيعية، ونراه يؤسس فكرة المكان على أنها عنصر مؤثر ومتأثر في ذات الوقت بالصفات السياسية للجماعة أو الجماعات التي تسكن المكان.  وأما الموقع فإنه يراه العنصر الذي يلون المكان بصبغة تجعله دائم الاختلاف عن غيره من الأماكن، ومن ثم يصبغ الدولة بصبغة مغايرة لغيرها من الدول.ولا شك أن أفكار راتزل التطورية قد ظهرت بوضوح في القوانين السبعة التي سبق ذكرها، والتي تحدد الدول في أماكنها ومواقع هذه الأماكن، ومصدر هذه القوانين التطورية في آراء راتزل نابع من اعتقاده أن الدولة كائن عضوي: هي كينونة بيولوجية جذورها في الأرض، وكينونة معنوية وخلقية مستمدة من ارتباط الإنسان بأرض يعمل فيها ويتغذى على مصادرها ويحتاج إلى حمايتها وحماية حياته.

وعلى العموم فإن قوانين راتزل السبعة كانت أساسًا قوانين خاصة بالمكان والموقع، فنشاطات الإنسان وصفاته وكثافة السكان في الدولة ليست — في نظره — سوى نتاج الموقع والحجم والبيئة الطبيعية والحدود، وفوق كل هذا نتاج المكان. وقد أعطى راتزل للحدود السياسية أهمية خاصة معتبرًا إياها العضو الخارجي للدولة «كالجلد بالنسبة لجسم الأحياء»، وهي بذلك تعطي الدليل على مراحل نمو الدولة أو ذبولها وقوتها أو ضعفها.ولعل من أهم ما أعطاه لنا راتزل من تراث هو تلك الرابطة التي أوجدها بين المساحات القارية الكبيرة للدولة وبين القوة السياسية.  ففي رأيه أن المسطح الكبير — المكان — هو طاقة سياسية يمكن أن تظهر وتبرز مع حسن استخدامها.  ولقد كان راتزل متأثرًا بشدة في ذلك من مثال حي: نمو الولايات المتحدة كقوة كبيرة داخل إطار من «المكان» الكبير.  وكان بذلك يشعر أن دور أوروبا سوف يتضاءل، وأن تاريخ السياسة العالمية سوف تسيطر عليه في القرن العشرين الدول العملاقة المساحة التي تحتل مكانًا كبيرًا من القارات مثل أمريكا وروسيا وأستراليا.بعد راتزل تعرضت  الجيوبلوتكس للكثير من النقد والجدل حول الموضوع والمنهج، ورفض عدد من الأساتذة أن تصبح  الجيوبلوتكس جزءًا من الدراسة الجغرافية بقدر كونها ملحقًا من ملاحق دراسة الأرض، وعلى الرغم من أن فريدريك راتزل جغرافي ألماني إلا أن  الجيوبلوتكس لم تجد بين عدد كبير بين الجغرافيين الألمان استجابةً وتحمسًا بقدر ما وجدت في الأوساط الجيوبلوتكيه  الأخرى خاصة الولايات المتحدة،.  ولكن عددًا من الجغرافيين الألمان المحدثين بدأوا يهتمون بـ الجيوبلوتكس بعد فترة الإعراض عنها، وهي الفترة التي نشأت فيها وازدهرت فكرة الجيوبلوتكس، بعد الحكم النازي .

ومن أهم الجغرافيين الألمان المحدثين الذين تناولوا  الجيوبلوتكس بالدراسة والبحث هاسنجر M. Hassinger وأوفربكH. Overbeck وقد عارض الجغرافيون الألمان فكرة الجغرافيا الحتمية التي ظهرت في كتابات راتزل السياسية والجغرافية عامة، وفي هذا المجال كتب هاسنجر يقول: " إن هدف  الجيوبلوتكس عند راتزل هو شرح وتصوير الدولة على أنها كينونة حية مرتبطة بالأرض، وعلى أنها جهاز متغير مع حركة التاريخ، وهكذا فإن المكان والموقع والتغيرات التي تطرأ على الشكل السياسي للمكان هي في نظر راتزل عوامل أساسية جوهرية، بينما يقف العامل البشري الذي يتمثل في صورة الشعوب في خلفية الصورة".وعلى هذا الأساس فإن هاسنجر في دراسته لراتزل يوضح كيف أن المكان — في نظر راتزل — يلعب دورًا هامًّا .  ولكنه ليس العامل الوحيد الذي يجب أن تنظر إليه  جيوبلوتكس ، وبعبارة أخرى فإن هاسنجر يعترف بأهمية المكان ويضيف إليه عوامل بشرية أخرى لها دورها في الأوضاع السياسية للدولة، وإلى جانب مبدأ راتزل «أن كيان الدولة يمنح أقاليمها قوى معينة» يضيف هاسنجر مبدأً آخر: «الدولة تستمد قواها من أقاليمها»، وذلك في إطار العلاقة المتبادلة بين الدولة والمكان.

ويرى أوفربك أن راتزل أكد دور العوامل المعنوية والإدارية للبشر إلى جانب عاملي المكان والموقع، ويقول أوفربك إن راتزل أشار إلى هذه العوامل إشارات خفيفة في كتابه الأساسي في  الجيوبلوتكس ، ولكن دور العوامل الأخرى يبدو واضحًا وقويًّا في دراساته التفصيلية مثل دراساته وأبحاثه السياسية عن دول حوض البحر المتوسط والولايات المتحدة وكاليفورنيا، ففي كتاب راتزل الأساسي عن  الجيوبلوتكس تطغى على راتزل فكرة «الدولة كائن مربوط إلى الأرض»، ومن ثم فإن راتزل كان يعالج موضوعات الدولة ومشكلاتها على أساس مناهج البحث في العلوم الطبيعية.  ولهذا فإن المكان الطبيعي كان يظهر عند راتزل على أنه العامل الأساسي وحجر الزاوية في  الجيوبلوتكس . ولا شك أن سقوط الكثير من الدول في الماضي والحاضر كان راجعًا إلى أن هذه الدول قد تعدت «مكانها» الجغرافي، أو أنه عائد إلى تصورات خاطئة عن تنظيم «المكان» الجغرافي للدولة، وفي الحالتين تكون النتيجة سقوط الدولة.  وبذلك أصبحت غير قادرة على تحمل أعباء إضافية في حالة التوسع المستمر، أو لأنها أفسدت المكان الجغرافي في حالة إعادة تنظيم المكان مما يترتب عليه تخريب في الإنتاج ومراكز القوة في الدولة.

وهكذا تُبرِز دراسات هاسنجر وأوفربك وغيرهما أن راتزل لم يكن في واقع الأمر متحيزًا تمامًا لفكرة المكان، وإن كان في أحيان يؤكد على العامل الطبيعي بحيث يطغى على إشاراته العديدة لعوامل أخرى تلعب دورها في  الجيوبلوتكس .وفي هذا يقول جوستاف فوشلر هاوكه إن راتزل حذَّر من التغالي في فهم دور المكان والموقع في  الجيوبلوتكس ، وإن صفات الشعوب تساهم مساهمة فعالة في إعطاء الدولة القيمة السياسية التي لها، ويؤكد هاوكه أن راتزل لم يتغاضَ عن قيمة العامل الاجتماعي . وإن لم يبرز ذلك على النحو الذي نعرفه اليوم، خاصة بعد أن تطورت ونمت كثير من معارفنا ومناهجنا الجغرافية وغير الجغرافية مثل علم الاجتماع والأنتروبولوجيا والجغرافيا الاجتماعية.

تبرز كتابات الجغرافي الألماني فردريك راتزل مدى تأثره بأفكار و تنبيهات عالم الاحياء تشارلز دارون( تأثر راتزل في كتابه  الجيوبلوتكس بنظرية التطور الطبيعي التي طرحها دارون وتقوم هذه النظرية على افتراض ان استمرار وبقاء الكائن الحي يتوقف على مدى قدرته على التكيف وان التكاثر هو دليل التكيف . ومن هنا فإن الكائنات الحية تكافح من اجل البقاء وهذه العملية وصفها داروين بالانتقاء الطبيعي أو بقاء الأصلح . وقد زاد تأثر داروين بعد أن طرح عالم الاجتماع هربرت سبنسر تفسيره لهذه النظرية أو ما سُمي بالدروانية الاجتماعية ويقوم التفسير على افتراض ان هناك تشابها كبيرا بين المجتمعات الإنسانية والكائنات العضوية وان قوانين الانتقاء الطبيعي تحكم حياة هذه المجتمعات. أن فكرة داروين عن الصراع من اجل البقاء يمكن مساواتها بالصراع من اجل المكان، فكل اشكال الحياة على كوكب كانت تشارك في السعي للمجال الحيوي ،وكان تطبيق هذه الفكرة على الجيوبولتيك الأوروبي يتطلب نظرية حيوية لتكوين و تطور الدولة و هذا المفهوم الذي قدمه راتزل .

هذه الفكره أعطت مبررًا للحراك النازي الكبير لاجتياح أوروبا، ورغم أن العالم استقر بعد الحرب العالمية الثانية نظريًا على ثبات الحدود وضرورة احترامها، ولكن علميًا بقيت الحدود سيالة، ولا زالت التغييرات الحدودية جارية في العالم، واستعيض عن فكرة الحدود المادية بفكرة الحدود الشافة. ( والحدود الشافة تعني أن الدول تتدخل حيث توجد مصالحها، وأن سيادة الدول القانونية لا تعني سيادتها الفعلية، وبهذه الذريعة  توحد القوى  العظمى في كل العالم، بحجة حماية مصالحها، وتستطيع أن تتدخل في نزاع  حدودى ، أو داخلي للدول الأقل حظًا  . على الرغم أن القانون الدولي يتحدث عن الحدود الثابتة والمرسومة، ولكن الفعل السياسي على الأرض يختزن مفهومين نقيضين، وهما الحدود البيولوجية والحدود الشافة).