حسين القاضى
لأن الفكر هو الذى يحرك الحياة، فإن التجديد فى الفكر من ضروريات الحياة، ويعنينى هنا التجديد فى الخطاب أو الفكر الدينى، الذى كثرت فيه المقالات والأبحاث والمؤتمرات إلى درجة كادت كلمة «تجديد الخطاب الدينى» تكون مستهلكة، فضلاً عن أنها نخبوية منقطعة عن القائمين بمواجهة الجماهير من أئمة وخطباء، كما أنها لم تخرج من المؤتمرات إلى حيّز التنفيذ على أرض الواقع.

ومن مظاهر التجديد -الذى لا ترى له أثراً- تقديم خطاب دينى على المنابر للجماهير، يؤدى إلى استعادة وإحياء الشخصية المصرية والثقة فيها، والتذكير بمعالمها ومكوناتها الأصلية وسماتها التى صنعت شخصية الإنسان المصرى المتديّن عبر التاريخ، والتى برز من خلالها القادة والعباقرة والعلماء فى مختلف ميادين المعرفة عبر التاريخ المصرى.

أيضاً فى تجديد الخطاب الدينى لا تجد أثراً واضحاً لخطاب دينى -بعيداً عن المؤتمرات- يُعلى القيم المعرفية، ويتبنّى نظرة إيجابية للعالم فى مواجهة الصدام والعنف والجمود، ويُعلى قيم النزاهة فى مواجهة الفساد والرشوة والإهمال والفوضى، ويُعلى قيمة الجمال والذوق والتثبت، ليواجه خطاب الحماس والشعبوية والقبح والتشتت والشماتة.

وفى ظل الأزمات الاقتصادية التى يعيشها المجتمع تكاد لا تجد أثراً ملموساً لخطاب دينى يشجّع على البذل ويدعو إلى اكتشاف مجالات جديدة للعمل، كما فى الحديث الذى دعا فيه الرسول الكريم رجلاً ليجمع حطباً ويبيعه فى الأسواق، مع مواجهة الخطاب الدينى للتبذير والإسراف، ونبذ العادات السيئة كمنع الإناث من الميراث، والخطاب الإيجابى الوحيد الذى نراه هو الذى يدعو إلى إخراج الصدقات.

أيضاً فى تجديد الخطاب الدينى نادراً ما نجد خطاباً -بعيداً عن المؤتمرات التى فى الفنادق- يدعو إلى الحفاظ على المال العام، لمواجهة دعوات التحريض على الامتناع عن مستحقات الدولة من مياه وكهرباء وخلافه مع القدرة على دفعها، ومواجهة المخرجات الشرعية، والتأويلات الفاسدة التى يتبنّاها متطرفون، وتوضيح أن الدولة فى الإسلام لها شخصية اعتبارية مستقلة، لا علاقة لها بالقائم عليها، وأن الامتناع عن دفع مستحقات الدولة لن يؤدى إلى زوال النظام، لكن سيؤدى إلى هدم الدولة، حتى إن زال النظام -جدلاً- سيزول عن دولة مدمرة فاشلة.

وفى مجال تجديد الخطاب الدينى نحتاج إلى توليد علوم جديدة كعلم أصول الحضارة، لبيان الوجه الحضارى للإسلام، وقد كتب فضيلة الدكتور على جمعة فى قضية توليد العلوم فى كتابه (سمات العصر)، كما نحتاج إلى خطاب دينى يتناول أولاً: العبادة بشقيها، العبادة الذاتية كالصلاة والصوم، فيقوم بإحياء مقاصد هذه العبادات، وهذا ما فعله الإمام «أبوحامد الغزالى» فى كتابه «إحياء علوم الدين»، والعبادة المتعدى نفعُها للغير، كالعطاء والبذل للمحتاجين، وثانياً: تزكية النفس، وثالثاً: عمارة الأرض بالبناء والحضارة وصناعة مؤسسات قوية، وتعليم مبدع.

ثم تأتى قضية محورية كنتيجة مهمة من نتائج تجديد الخطاب الدينى، ألا وهى تحويل القيم العظمى المركزية التى تصنع سلوك الإنسان -التى هى من مقاصد الشرع، بل من مقاصد كل الشرائع- إلى مؤسسات تصنع الحضارة، فمثلاً كلمة الرحمة تتحول من كلمة إلى قيمة، ومن قيمة إلى مؤسسة، ومن مؤسسة إلى حضارة، فتتحول إلى بناء المستشفيات، وصناعة الطب، وقد تناول صاحب كتاب «الشخصية المصرية.. خطوات على طريق استعادة الثقة»، فكرة تحويل القيم إلى مؤسسات وحضارة.

وليس المقصود أن القائمين على الخطاب الدينى هم بأنفسهم يحولون هذه القيم إلى مؤسسات، لكن المقصود أنهم ينشرون هذه الدعوة ويؤسسون لهذه المبادئ.
نقلا عن الوطن