5- المسيح العـامل
بقلم
دكتور مهندس/ ماهر عزيز
استشارى الطاقة والبيئة وتغير المناخ


جال "يَصْنَعُ خَيِّرَاً" (أع 10: 38) طوال حياته على الأرض، وعمل متواصلاً دون كلل ولا ملل ولا
هوادة، ولم يكن له " أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ" (مت 8: 20)..

قال مشدداً على العمل: " يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ.. مَا دَامَ نَهَارٌ"، حيث "يأتى ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل"
(يو 9: 4)، و" مادُمتُ في العالَم فأَنا (بعملى) نورُ العالَم" (يو 9 : 5).
كانت حياته على الأرض مجداً للعمل الذى لا يكف ولا يتوقف.. لا يخبو ولا ينطفئ.. لا ينتهى ولا
يضمحل..

كأنما أراد أن يبعث الروح من جديد فى قانون الحياة الأزلى الذى حكم اللـه به عالم البشر منذ
وطئت خليقته الأرض.. قانون الوجود الأعلى الذى بدونه يتقوض الوجود: " بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزاً"
(تكوين 3: 19)، فكل خبز يأكله بشر دونه عرق الجبين والتَّعَب والنَّصَب والعمل الذى لا يكل ولا يهدأ..
فإذا به يعلق الحياة كلها بالعمل البشرى، ويجعل من العمل واجباً إنسانياً حتمياً.. لكن من هذا الواجب
عينه ينبثق حق الإنسان فى عمله..

حق الإنسان فى عمل يتناسب مع كفايته واستعداده ومع العلم الذى تحصل عليه..
فالعمل فضلاً عن أهميته الاقتصادية فى حياة الإنسان تأكيد للوجود الإنسانى ذاته..

والعمل الإنسانى الخلاق هو الوسيلة الوحيدة أمام الفرد لكى يحقق ذاته..
فالعمل شرف.. والعمل حق.. والعمل واجب.. والعمل حياة..

إن العمل الإنسانى المتواصل هو المفتاح الوحيد للتقدم، وليس من وسيلة للأمل غير العمل الإنسانى..
فالعمل الإنسانى البنَّاء يتحقق في العالم لينشر الخير والحق ويؤسس الحياة الكريمة..

-2-

يفعل ذلك فى العلن على رؤوس الأشهاد الذين يتغيا خَيَرَهم، " لأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْمَلُ شَيْئًا فِي الْخَفَاءِ وَهُوَ
يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَلاَنِيَةً. فَإِنْ كُنْتَ تَعْمَلُ (وتبنى).. فَأَظْهِرْ نَفْسَكَ لِلْعَالَمِ" (يو 7 : 4)،لكن "كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ
السَّيِّآتِ يُبْغِضُ النُّورَ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى النُّورِ لِئَلاَّ تُوَبَّخَ أَعْمَالُهُ" (يوم 3: 20).

فليكن العمل بكل إرادتنا وأمانتنا واقتدارنا لأنه "يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ" (يو 9: 4)،
ولذا "فَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ، فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ" (يع 4 : 17).
والقاعدة الوجودية الأصيلة هى أن يحصد الإنسان ما يزرع، فحسب صنع أيديهم يُعْطَوْن وبما يُعَامِلون
يُرَدُ عليهم (مز 28 : 4)، ولا يسكن المقادس والحياة النقية "عامل غش" (مز 101 : 7)، لأن العاملين
بالصدق فقط هم الفائزون بمرضاة اللـه (أم 12: 22).

العمل هو الاجتهاد والفرحة
وإذا كان العمل قد ارتبط بالتعب والجهد الشاق حتى ليضيق الإنسان فى لحظات كثيرة بأعباء الحياة
وتكاليفها،

وإذا كان الخالق عَزَّ وجَلَّ قد حكم على الإنسان فى مبدأ الخليقة: " بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا (أى الأرض) كُلَّ
أَيَّامِ حَيَاتِكَ" (تك 3: 17)،

فما ذلك إلا لأن " الَّذِينَ يَزْرَعُونَ بِالدُّمُوعِ يَحْصُدُونَ بِالابْتِهَاجِ" (مز 126: 5)، و"الرَّخَاوَةُ لاَ تَمْسِكُ
صَيْداً أَمَّا ثَرْوَةُ الإِنْسَانِ الْكَرِيمَةُ فَهِيَ الاجْتِهَادُ" (أم 12: 27)، و"العامل بيد رخوة يفتقر أما يد
المجتهدين فتغنى" (أم 10 : 4)، والتحذير القائم الدائم:" قليلُ نَوْم بعْدُ قليل نُعاس، وطَيُّ اليدَيْن قليلاً
للرّقود، فيأتي فَقْرُك كَساع وعَوَزُك كَرَّجُلُ متسلح" (أم 6: 10)، و" كُلُّ ذَكِيٍّ بِالْمَعْرِفَةِ يَعْمَلُ " (أم 13:
16).


من هنا صار العمل هو الضريبة التى يدفعها الإنسان من عمره لقاء وجوده، والعبء الذى يحمله على
كاهله نظير عيشه، لكنه فى الوقت ذاته هو الفوز العظيم الذى يعزز مكانته، والجائزة الكبرى لتعب
حياته.

والذين يسخطون على الحياة لأنها مشروطة بالعمل، ومتوقفة على الجهد، عليهم أن يتبصروا بأنه إذا
كان من الحماقة البالغة أن نلعن الشمس لأنها لا تشعل لنا لفائف التبغ حين نريد منها ذلك – كما قال
توماس كارلايل – فإنه لمن الأكثر حماقة أن نتمرد على الحياة لمجرد أنها لا تنزل دائماً عند رغباتنا،
ولا تستجيب لنا باستمرار فى تحقيق كل أحلامنا..

-3-

وعوضاً عن ذلك.. فلننظر إلى حياتنا وقد خلت من المشكلات، وأمَّحَت منها شتى الصعوبات، وارتفعت
عنها كل المعضلات، وانعدمت فيها كل المخاطر.. زالت عنها كل تلك الخطوب الحافلة بالمجاهدة.. فأى
نوع من السعادة نبحث عنه فى محفل هذه الظروف؟

العمل يجسد روح الإنسان
لقد حفلت الحياة الإنسانية بصورة صادقة ومؤثرة "لآلام البشر" خلال أعمال يدوية عديدة، وليس
بوسعنا نكران ما فى حياة "الطبقة الكادحة" من أعمال شاقة وجهود مضنية وإرهاق بالغ، حتى لقد
تصاعدت دعوات عديدة لتحسين أحوال وحياة العمال، وتحديد ساعات العمل، وإثبات أنه ليس ثمة
"عمل" يمكن أن يكون "شراً خالصاً" مادام من شأن كل "عمل" أن يكون قريباً "للفعل الإيجابى"

الذى نغير فيه من أنفسنا، ونخلع فيه من طابعنا على العالم الخارجى حولنا، فيملأ وجودنا "بغبطة
روحية" عميقة تمنح الحياة معناها وجدواها.
وإذا كانت "الأعمال" تختلف من حيث درجة "الخلق" و"الإبداع" فيها، فإنها جميعها مظاهر حية
لسيطرة الإنسان على العالم، وقدرته على صبغه بالصبغة الإنسانية.
على أننا يمكننا دائماً أن نُعَرِّف الإنسان بأنه "الموجود القادر على العمل"، وإذا كانت "القدرة على
العمل" هى "القدرة على إبداع أثر متحقق يكون صنيعة يد الإنسان"، فإن هذه القدرة تقترن وجودياً
بالغبطة والسعادة.

والعمل فى جوهره هو افتراض قائم دائم بأن "الإنسان" و"العالم" ليسا حقيقة مكتملة معدة سلفاً..
ولكن "الذات" و"الموضوع" هما معاً حقيقة مرنة تنشد التحقق، وقطبا هوية ناقصة تلتمس الاكتمال،
ولذا فالعمل يضطلع بمهمة مزدوجة، إذ لابد "للعامل" من أن يحقق (بالعمل) إضافة فى العالم من جهة،

كما لابد له من أن يحقق (بالعمل) ذاته فى العالم من جهة أخرى، ذلك أن العمل إذا كان ينصب على
الطبيعة ويتجه للعالم الخارجى، فإنه يرتد إلى الإنسان فى الوقت ذاته منعكساً على الفرد نفسه، ومؤكداً
أنه لابد "للعامل" من أن يجد نفسه مضطراً إلى الخضوع لشريعة "العمل"، والنزول على حكم
"المصنوع بيده" أو "الأثر المتحقق بفعله"، فالعمل يلزمنا بالموضوعية، وينسينا ذواتنا فى سبيل
غاية أهم ترتبط "بالإنتاج" ذاته، وتجعلنا نمجد على الدوام المهارة والكفاءة والإتقان والإجادة وأداء
الواجب على الوجه الأكمل.

والحق أن الحديث عن العمل هو حديث عن ثالوث يضم "الفكر" و"اليد العاملة" و"الأداة".. والإنسان
"العامل" هو ذاك الذى يعرف كيف يستخدم يديه فى تجسيد أفكاره، وتثبيت رؤاه.
والواقع أن "اليد العاملة" ليست مجرد أداة خلق وإبداع، بل هى أيضاً أداة "مخاطرة" و"معرفة"،

ولابد "لليد العاملة" من أن تتضافر مع "الفكر" فى تجسيد "العمل" وتنفيذه دون أن يكون "الفكر"

هو الذى يوجه و"اليد" هى التى تأتمر، "فاليد العاملة" نفسها "ذكاء" و"إحساس" و"إلهام"، أو قل

-4-

إنها أداة عاقلة، حساسة، مُلْهَمَة، و"العامل" الموهوب يفكر بيديه كأنه يحمل عقلاً فى أطراف أصابعه،
وهنالك تآزر رائع بين "اليد" و"الفكر" لدى العاملين بما يجعل من العمل المتحقق إبداعاً حقيقياً يشهد
بسيطرة الإنسان على الطبيعة، وتأتى "الأداءة" فتزيد من سيطرة "اليد" على المادة، وتساعد
"الفكر" على إبداع "العمل الجيد"، وبذلك يجئ "العمل" مصداقاً لتضافر "الفكر" و"اليد" و"الأداة"
على تحقيق الإنجاز المتقن أو الإنتاج المبتكر.

الالتزام بين "الفكر و"العمل"
إن العمل البشرى هو الوسيلة الوحيدة كى يضيف الإنسان شيئاً من الجِدَّة إلى الواقع القائم، وهو
الإمكانية القادرة وحدها على إضفاء طابع إنسانى على ما هو ناقص وغير مكتمل،

إن الإنسان ليعمل فى أحيان كثيرة لأجل "الناتج" الذى يحققه لا لأجل وجوده الخاص، وإذا كانت الذات
الإنسانية أسمى كثيراً من كل ما تبدعه، فإنها لا يمكن أن توجد إلا إذا تجسدت وتحققت واندمجت فى
الواقع المادى، فتضع فى مقابل وجودها "الروحى" أو "الذهنى" حقيقة عينية تكون هى "العمل"

الذى تتعرف فيه على نفسها، وكأن "العمل" الذى ينهض الإنسان بأدائه هو الواسطة التى تسمح
للروح بأن تتجاوز ذاتها.. ولا غرو فإن الذات التى تعمل تتجاوز نفسها لتندمج فى عملها، وتخضع
بسخاء للنشاط العملى الذى تقوم به.

ولذا فإن "الالتزام" Engagement الذى يرتبط به العمل ليس سوى تعبير عن تلك الحقيقة البشرية
الخالدة: "إن كل نشاط "ذهنى" للإنسان لابد له أن يستحيل إلى نشاط "عملى"
"هادف"، وإلا لكان
حلماً واهياً أو سراباً خادعاً أو صورة من صور "الهروب" Evasion. فمعيار الحكم على "العمل
الإنسانى" إنما هو قدرة هذا "العمل" على تغيير العالم وتقدم الإنسان.

والحق إن العمل هو "التزام" الإنسان فى "الطبيعة" و"المجتمع"، لأن كل من وهب نفسه لعمله لابد

وأن يجد نفسه مُلْزَمَاً به تجاه العالم من حوله فى تحققه المادى والإنسانى، ولأن الإنسان موجود
متجسد، أى نفسٌ تملك جسداً، فليس فى وُسْع عمله أن يتحقق إلا بالالتزام، أى بالانخراط فى إنتاج
مثمر.

ومهما يكن من طبيعة "العمل" فإنه لا يصير فعلاً إنسانياً إلا إذا وُجِدَت الذات التى تتخذ منه هدفاً تسعى
إليه، وتُجِدُّ فى سبيل تحقيقه، ونحن حين "نعمل" فإننا نأخذ على عاتقنا ربط جهدنا بالواقع العملى،

والتعبير عن التزامنا فى العالم "بالفعل" المتحقق، أما حين نركن إلى الخمول والجمود، أو حين نعمد
إلى التواكل والتكاسل، فعندئذ يموت فى نفوسنا معنى الالتزام، ونستحيل إلى "عالة" أو "نُفَاية" لأننا
لم نعد نملك أهدافاً نسعى إلى بلوغها، أو غايات "نعمل" لأجل الوصول إليها.

إن من أفضال "العمل" على الموجود البشرى أنه يزيد من شعوره بالحرية والمسئولية معاً، فيدرك
الدلالة الروحية للالتزام باعتباره تجلياً لارتباطه بالكون من جهة، وارتباطه بالآخرين من جهة أخرى.

-5-

ولقد يمكن للمرء أن يقبع فى ذاته، أو ينطوى على نفسه، لكنه لن يملك حين ينشط ويجتهد أن يبقى
وحيداً معزولاً لا تربطه بالعالم والناس أى صلة، "فالعمل" هو الأداة الوحيدة التى تقذف بنا إلى العالم
الخارجى، والجسر اللازم الذى تعبره الذات إلى دنيا الناس.. وذلك هو المغزى لأصداء أعمالنا التى لابد
وأن تتردد فى العالم والمجتمع والتاريخ.

نعمل لذواتنا وللآخرين أيضاً
على أن الإنسان لينتشر فيما حوله بتأثير "أفعاله"، ذلك أن من شأن كل "عمل" يقوم به الإنسان أن
يخرجه من ذاته لكى ينتقل به إلى عالم الآخرين، وليس فى وسع الإنسان أن يقطع صلته بالعالم من
حوله، ولا بمقدوره أن يتحرك أو يفكر أو يحيا دون أن يطرح نفسه فى العالم بعمله.. فالفردية بطبيعتها
محدودة خانقة ضيقة الرقعة، وليس فى استطاعة أحد أن يكتفى بنفسه، وإنما لابد له من أن يعمل
بالآخرين ومعهم ولهم..

وإذا كان من الصحيح أن كل فرد يحاول أن ينظم حياته بنفسه ولنفسه، فإنه من الصحيح أيضاً أن
الإنسان سرعان ما يتحقق من أن حياته الفردية هى من الترابط بحيث يستحيل ألا يتسع "عملها" فى
دوائر أكبر تصل إلى أبعد من الدائرة الفردية ذاتها..

والحق أن مجموع "أعمالنا" لابد وأن يطبع صورتنا فى الوسط الذى نعيش فيه، فتتحقق ذواتنا فى
العالم الخارجى من خلال الأعمال التى ننجزها، والأفعال التى نؤديها، كمركز إشعاع ذاتى فى محيطنا.
إن "الفعل" الذى يقوم به الفرد ليس مجرد "عمل خاص" يهم صاحبه وحده دون سواه، بل هو "عمل
اجتماعى" يتسم بطابع كلى عام لأنه يخرج إلى الجماعة التى يتحقق فيها، فيحدث أثره فى حياة
الآخرين.

عمل الإنسان يصنع التاريخ
قد لا تجئ نتائج أعمالنا مطابقة لمقاصدنا.. فالفعل المتحقق يختلف بالضرورة عن الفعل المُتَصَوَّر، لكن
المؤكد أننا مسئولون دائماً عن كل ما يترتب على أفعالنا من آثار..

وليس بوسعنا أن نحول دون امتداد نتائج أفعالنا إلى الآخرين، أو أن نغسل أيدينا من آثار تنجم عن
أعمالنا فى عالم الآخرين، ولابد لنا من أن نعترف بأنه يستحيل علينا أن نخطئ دون أن نسئ للآخرين..
الحق أنه ليس بوسعنا البتَّة أن ننفذ إلى ما حولنا أو نخرج منه كيفما نشاء، وفى أى وقت نشاء. ولا
نملك من القدرة ما نمنع به الآخرين من التأثر بأفكارنا وأفعالنا وعواطفنا، لأننا بمجرد ما نتمكن من

-6-

التعبير نكون عندئذ قد طبعنا صورتنا الخاصة فى المجتمع المحيط بنا، وحين يتحقق "الفعل" فإنه
يصبح عندئذ بمثابة "رسالة" نوجهها إلى كل من يستطيع الفهم والإرادة.
إن "الانتشار" و"الاستمرار" سمتان رئيسيتان من سمات "الفعل" حتى ليبدو "الفعل" كالكائن الحى:

يحيا وينمو ويترقى، فضلاً عن أنه يحمل فى طياته شعلة روحية تلتمس الفهم والاستجابة و"رد
الفعل".

إن البشر فى جوهرهم ليسوا إلا "موجودات عاملة" تحيا فى "الخارج" أكثر مما تحيا فى "الداخل"،

وتدرك ذوات الآخرين قبل أن يتوافر لها وعى حقيقى بذاتها الخاصة، وتنفذ – جميعها – بعضها فى
البعض الآخر، بما يصنع تلاقحاً روحياً بين الأفكار والأفعال، وهذا التلاقح الروحى فى عالم البشر إنما
هو الدليل القاطع على أن أحداً لا يفكر أو يعمل لذاته وبذاته، بل هو يفكر ويعمل للآخرين وبالآخرين.

وإذا كان "كل فعل هو نقطة تحول فى مسار التاريخ الشامل" – على نحو ما يؤكد " بلوندل" الفيلسوف
الفرنسى الراحل – فإن أصداء هذا الفعل قد تتسع لتشمل مجرى الأحداث الكونية والبشرية فى الأماكن
كلها.

وقد لا يتوافر لدى المرء وعى واضح بكل نتائج أفعاله، وقد تكون هنالك بواعث خفية تحول دون فهمه
للمضمون الحقيقى لأفعاله، التى تمضى غالباً فى مسارها لإحراز نتائجها بمقتضى المنطق الضرورى
الكامن فى صميم الفعل نفسه، لكن ذلك لا يحول أبداً دون إدراك الفعل لأبعاده الحقيقية: إذ يعدل من
الواقع الخارجى، ويصنع ذواتنا، ويقربنا من الناس، ويثرى عالم القيم.

فى البدء كان "الفعل"
الحق إن ما نعمله هو رهن بما نحن إياه، فأفعالنا تتوقف على نوع وجودنا، ونحن عَيْن ما نعمل!!
إننا فى الواقع لا نوجد إلا بقدر ما نعمل، لأن العمل وحده هو الذى يجعلنا نوجد، ويجعلنا نفرض بعملنا
ضرباً من التغيير أو التعديل على العالم المادى حولنا.

وإذا كان البدء هو "الكلمة".. فالبدء كان هو "الفعل" أيضاً.. لأنه "فى البدء "خلق" الله السموات
والأرض" (تك 1: 1).

وفعل "الخلق" كان هو "العمل" الذى بدأت به الحياة فى جوهرها الأزلى.. وهى لا تستمر أبداً سوى
بالجهد والإيجابية والإنتاج..

إن العمل هو الألف والياء فى دراما الوجود البشرى، والذى لا يعمل يفنى، أو يعيش عالة على الوجود،
أو إذا تَحَمَّل مسئولية وجوده أحدٌ غيره، فهو يفقد مقومات عَيشه، ولا يستحق الحياة!!

-7-

ونحن لابد لنا من أن نعمل حتى نفصل فى مصيرنا لأنفسنا بأنفسنا.