ڤيڤيان سمير
بعد أنتهاء حفل تخرج دفعة العام من طلبة كلية الهندسة وقفت أهنئ تلميذى الذى دعانى لأرافقه وأقاسمه لحظة نجاحه، بعد أنقضاء ما يزيد عن خمسة عشر عاما على لقائنا الأول كأستاذ وتلميذه. لقاءا غير حياة كلينا، أنحنى تلميذى الذى أصبح مهندسا يقبل يدى قائلا " لن أنساك أستاذى ماحييت فقد صرت أبى، الذى لم أراه، يوم وقعت عينى عليك والتصقت بك ثلاثة أعوام شكلت مفهومى عن الأب، ومنحتنى ما أفتقدته من الحب والحنان، ستبقى دائما أبى".
 
أعاد إلى ذكرى يوما حارا من أيام شهر سبتمبر، أضطررت للخروج مبكرا متأففا، فعملى كمدرس أبتدائى لا يستهوينى كثيرا، دخلته من باب الأضطرار لا الأختيار، ثم أننى لا أجيد التعامل مع الأطفال ويكفينى ثلاثة منهم فى البيت، لا علاقة لى بهم كأب سوى التكافل المادى.
 
أول يوم وأستقبال الصغار الجدد الذين لا تزيد أعمارهم عن السادسة يكون عادة يوما مرهقا ومزعجا بالنسبة لى، أمر بين تلاميذى لأتعرف عليهم، أجراء روتينى أقوم به مع كل دفعة جديدة من الصغار، كأداء واجب دون أى رغبة حقيقية منى فى ذلك ، فلا يربطنى بهم سوى هذه الجدران وبضع كلمات ألقى بها عليهم ربما لا يفهمون منها حرفا.
 
لاحظت هذا الصغير الذى وجد نفسه وسط جمع كبير من البشر، منهم من هم فى مثل سنه تقريبا ومنهم من هم أكبر منه ، لا يعرفهم ولا يعرف ماذا يفعل بينهم أو لماذا تركته والدته وحيدا معهم وهى التى لا تتركه أبدا، يفزعه أحساس الوحده والغربة بين هؤلاء، تملأ الدموع عينيه وخوفه يمنعها من النزول، يجلس منزويا حائرا فى المكان الذى تركته فيه المعلمة التى أستلمته من والدته، يخشى أن يتحرك فلا تجده والدته عندما تعود لأصطحابه كما أخبرته.
 
يراقبنى منبهرا، يستهويه ذلك الرجل الذى يتكلم فيصمت الجميع، ينهر الصغار لثرثرتهم وضجيجهم فيجلس كل واحد منهم فى مكانه ساكنا تماما.
 
دق جرس الفسحة وسمحت لتلاميذى بالخروج إلى الحوش، لكن ذلك الصغير بقى فى مكانه، تقدمت منه لأسأله لماذا لم يغادر مع زملاءه، لم يجيبنى ظل يتأملنى بعينيه البريئتين وهو مبتسم، نزلت إليه جاثيا مندهشا لهدوءه الشديد وعدم رده، لكنه زاد دهشتى حين مد يده إلى وجهى، وأخذت أصابعه الصغيرة تتحسس شاربى وذقنى الخشنة، يقترب منى يشم رائحتى ثم وجدته يلف ذراعيه حول رقبتى متسللا إلى صدرى ويطبع قبلة على خدى، أرتجف قلبى، هوى إلى مكان غريب، منطقة من المشاعر لم أجتازها قبلا، وجدتنى عالقا بين رغبة جارفة بأن أحتضنه وبين ذلك الجمود وتصلب المشاعر الذى عشته عمرى كله، حتى بعد أن أصبحت أبا، لا أعرف من الأبوة غير صورة أبى التى رفضتها ولم أستطع أن أكون عليها، وعجزت أن أكون على غيرها فبقيت أبا مع إيقاف التنفيذ.
 
خمسة أشقاء ذكور لأب شرطى بأمتياز، لم نعرف يوما طعما لحضن الأب بل كنا نختبئ بجحورنا عند سماع صوت حذائه الثقيل صاعدا الدرجات المتهالكة لمنزلنا القديم بالحى الشعبى الصاخب. التربية بالنسبة له كشعار السجن الذى يعمل به، أصلاح وتهذيب، فنحن لسنا إلا عصابة صغيرة يجب أن تبقى تحت المراقبة الصارمة وقيد العقاب المشدد لأقل خطأ، ولا تسلم الأم قليلة الحيلة من الأذى اللفظى وأحيانا البدنى أيضا لأنها لم تحسن تربيتنا، فسجنه أقصد بيته غير مسموح فيه بأى تجاوز من أى نوع، أما التدليل واللمسات الحانية فهى من المحرمات، والتى كنا نسرقها من والدتنا فى غيابه عن أستحياء وحذر، وكانت الطامة الكبرى حين رحلت طاقة النور الوحيدة، أمى، أزداد محبسنا ظلمة وبرودة وتاقت أرواحنا الصغيرة للفرار خارج أسوار القسوة والمهانة، مرت الأيام ونحن نتجرع الحرمان والكبت، صرنا أباء، منا من شابه أبى حد التطابق ومنا من أصبح مثلى بلا ملامح، تائها هائما عاجزا لا يعرف كيف يكون أبا أو حتى مجرد أنسانا سويا.
 
أستسلمت لرغبتى العارمة، أحتضنته بقوة، أستنشقته وملأت صدرى الخاوى برائحة ربيعه، دقات قلبه الصغير تنتفض تزلزل كيانى، تحطم أصناما شيدها سياط القسوة والخوف، أكتشفت أنى أنا من كان بحاجة إلى ذلك الحضن الصغير، الذى أحتوى جسدى وروحى البارده، العارية من كل معانى الحب والحنان، لمسة شفتيه الصغيرة أذابت الجليد الذى كفن قلبى لسنوات، سرى الدفئ بأوصال مشاعرى المتجمدة، حطم قضبان طفولتى، عبر بى حيرتى وعجزى إلى إنسان تمنيت أن أكونه ولم أعرف كيف.
 
دعنى أهمس بأذنك ولدى، أنك أنت من علمنى أن أكون أبا، أنت من أحيا قلبى، انت من الان قسوتي وجعلنى أدرك أن المعلم هو أب وان القلوب الصغيرة مدائن نور محظوظ من يدخلها، وأن الأثار التى تترك على القلوب أثمن بكثير من التى على الورق.