ألفى شند :
مع اعتراف الامبراطورية الرومانية  بالديانة المسيحية كإحدى الاديان الرسمية  . شرع الإمبراطور قسطنطين الاول - لم يكن بعد قد أعتنق المسيحية ولكن يحمل لها تقديرا بسبب إيمان امه القديسة هيلانة بها - ببناء عاصمة جديدة «طابعها مسيحيمحل  قرية اغريقية كان اسمها "بيزطة" حباتها الطبيعة بموقع فريد . يحدها من الشمال البحر الأسود ومن الشرق مضيق البوسفور وبحر مرمرة والق، ن الذهبي ومن الشمال بحر إيجة ومن الغرب شريط ضيق من الأرض متصل بقارة أوروبا وكانت حصينة ومحمية جداً من الشرق ومحاطة بسلاسل معدنية، واسوار تتحكم بدخول السفن. ودشنها الأمبراطور قسطنطين الأول عام 320م ، آوت بين جانبيها عشرات الكنائس عظيمة المعمار من بينها كنيسة للقديسة صوفيا .

 تدهورت احوال الامبرطورية الرومانية جراء الاضطرابات الداخلية  والحروب الخارجية أدى الى  تقسيم الإمبراطورية إلى أربعة مناطق ، كل منطقة يحكمها امبراطور منفصل  . ثم تقسيم  الامبراطورية عام 476 ميلادية  بشكل دائم الى  غربية لاتينية عاصمتها روما   وشرقية بيزنطية  عاصمتها السطنطينية  .

تميزت القسطنطينية عن  روما القديمة من حيث توجه الأولى نحو الثقافة اليونانية  والطابع المسيحى بدلًا من الوثني ، والمذهب الارثوذكسى بينما روما المذهب الكاثوليكى  لكن ظل الكنيستين فى اتحاد معا  بعد انشقاق الكنائس القبطية والسريانية والارمنية فى مجمع خلقيدونية عام 1451 م . وكان سكانها في الغالب يتحدثون اللغة اليونانية بدلًا من اللاتينية ويطلق عليهم الروم الارثوذكس .

احتلت القسطنطينية فى فترة حكم المقدونيين مركزا كبيرا في مجال التعليم والتعلم تمثل بجامعة القسطنطينية ومكتبة ضخمة احتوت  امهات الكتب  القديمة والتى اعيد نسخها ، والادب واللاهوت والموسيقى والتصوير وفن الفسيفساء . وتحفة معمارية تعد من عجائب الدنيا كنيسة "اجيا صوفيا" .

 كنيسة اجيا صوفيا :
أثر  نجاح الإمبراطور الروماني جوستنيان (527 0 – 565) فى اخماد ثورة ضده ،  رغب في تخليد اسمه وانتصاره ببناء «أعظم كنيسة في الوجود» ليضمن تردد اسمه على الألسنة إلى الأبد، ولتحقيق هذ الغرض  قام ببناء كنيسة جديدة للقديسة صوفيا محل الكنيسة القديمة التى حرقت أثناء الثورة  .  اراد جوستنيان ان تكون الكنيسة الجديدة   تحفة معمارية غير مسبوقة فى العمارة الرومانية  .

بنيت "اجيا صوفيا" الجديدة  على شكل صليب يونانى طوله 250 وعرضه 225 متر وعلى كل طرف من اطرافه قبة صغرى , أما القبة الكبرى تعلو المربع المكون من الضلعين المتقاطعين ، والحوائط  والارضية من المرمر متعدد الالوان .وزُخرفت الجدران الداخلية باللوحات الجدارية الفسيفسائية للسيد المسيح والعذراء مريم  . واستغرق البناء 5 سنوات ، تجاوزت تكلفة البناء  320 ألف رطلٍ من الذهب. تم افتتاح الكنيسة في حفلٍ ضخم عام 537م. ويقال ان جوستنيان عندما دخل الكنيسة  وصفها مبهورًا: «المجد لله الذي قدَّر أني جدير بإنجاز هذا العمل العظيم، لقد جاوزت فيه قُدرة سليمان وتفوقت عليه.  أشاد بها جميع مَن زارها، بمن فيهم عددٌ من الرحالة العرب الذين وفدوا على المكان وانبهروا بما رأوه؛ فذكر المسعودي أنها «إحدى عجائب العالم»، فيما وصفها ابن بطوطة بقوله: «من أعظم كنائس الروم، وعليها سور يطيف بها، فكأنها مدينة

وتشير كثيرٌ من الروايات التاريخية أن اسم «آجيا صوفيا» والكلمة تعنى باليونانية الحكمة والمعرفة هو اسم قديسة قبطية من مدينة "البدرشين" فى صعيد مصر عاشت فى القرن الثانى الميلادى  اثناء الاحتلال الرومانى ، ولدت من أبوين وثنيين . اعتنقت المسيحية  ،   وبسبب ذلك تعرضت للسجن والتعذيب  بتهمة الكفر بعبادة الأوثان حتى ترتد عن المسيحية لكن تحملت بصبرٍ وجَلَد العذابات  حتى ماتت، فاعتُبرت واحدة من أبرز شهداء الدين المسيحي.  انتشرت سيرتها العطرة حتى وصلت إلى الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأكبر المتحمِّس جدًّا للمسيحية، ، فأمر بنقل الجثمان إلى مدينته القسطنطينية ، حيث دفنت في إحدى بقاعها وأقام فوقها كنيسة عظيمة.

سقوط القسطنطينية فى أيدى العثمانيين :
امتدت انظار الفتوحات الاسلامية للاستيلاء على القسطنطينية مُنذأوائل العهدالأُمويّ خلال خلافة مُعاوية بن أبي سُفيان واستمرَّت حتى دخلها  السلطان الغازى محمد الثانى العثمانى . وكانت تُشكِّلُ عائقًا وحاجزًا أمام التوغل الإسلامي في أوروپَّا . يحدد المستشرق النمساوي "فون هامر" تعرض المدينة لتسعة وعشرين حصارًا للمدينة على مدار تاريخها، من بينها اثنتا عشرة مرة قام بها المسلمون، منها خمس مرات من قبل الأمويين واثنان من قبل العباسيين، وخمس مرات من قبل العثمانيين، لكن كل تلك الحملات كانت تبوء بالإخفاقالمدينة  .

تراجعت أحوالها بعد وفاة الامبراطور جستنيان العظيم. وفقدت الكثير من مناعتها  الدفاعية بسبب الاضطرابات الداخلية ، و الحملة الصليبية الرابعة التى  انهكت دفاعاتها  ، تمكن العثمانيين الاتراك  - وهم فى الاصل قبائل من الرعاة المغول أعتنقوا أغلبهم الاسلام ،  استوطنوا اسيا الصغرى ، المنطقة المسماة "تركستان الشرقية" حيث اقاموا ممالك وامارات  تكللت بدولة سميت الدولة العثمانية  على اسم المؤسس الاول   عثمان بن أرطغرل . تقلدت دولتهم مقاليد الخلافة إلاسلامية في عام 1299 حتى الغاها مصطفى كمال اتاتورك فى العام 1923 -  فى عهد محمد الثاني بحشود ضخمة من الانكشاريين والمتطوعين من الاستيلاء على القسطنطينية  فى 29 ابريل 1453 بعد حصار دام 53 يوما برى وبحرى، ولم تستطع أوروبا المسيحية الوقوف بجانبها، لانشغالها فى صراع سياسى مع بعضها :  فرنسا و إنجلترا فى حرب المائة عام (1340 – 1433 م ). وتوابع الانشقاق   الكبير» بين الكنيستين الكاثوليكية الرومانية  والارثوذكسية البيزنطية  عام 1053 ، وتفتت سلطتها الدينية، بوجود مقرّين للبابوية احدهما فى روما والاخرى فى فرنسا .

 بمجرد أن دخل السلطان العثمانى محمد الثانى  المدينة نقل عاصمة مُلكه من مدينة "أدرنة" إلى القسطنطينيَّة، وبدل أسمها الى «إسلامبول» أي «أرض  الإسلام أو الاستانة » وحول "اجيا صوفيا" الى جامع ..واصبحن  القسطنطينية المغتصبة مقرا للخلافة  الاسلامية .

يقول المؤرخ ادوارد شيبرد كريسي في كتابه "تاريخ العثمانيين الاتراك" ان كل أهل القسطنطينية تحولوا الى رقيق وعبيد وتم بيعهم جميعاً في أدرنة وما حولها   ، واحذ عديد من النساء  سبايا خارج البلاد  ، ونهب نفائس الكنائس وتدميرها ، وهاجر ماتبقى من علماء بيزنطيين إلى بلدان اوروبا المجاورة ، كانوا نواة للنهضة الاوربية  لاحقاً.

انتهج العثمانيون الاتراك بعد ان استقر بهم الحال فى القسنطينية سياسة التطهير العرقى والدينى والتهجير القسرى مع القوميات الاخرى  ، راح ضحية الابادة الجماعية التى ارتكبوها  مليون ونصف أرمني  . وقتل ثلاثة ارباع المليون من السريان اليعاقبة ومن الآشوريين والكلدان،  وقتل أكثر من مليوني انسان من اليونان . بالاستيلاء على  القسطنطينية ازداد  للعثمانيين قوة ونفوذ سياسى  وطموحا للتوسع في شرق المتوسط ومن السيطرة على سورية وبلاد الرافدين والجزيرة العربية برمتها، ووصلوا مصر والسودان ومنها الى شمال افريقيا، وفي شرق اوربا سيطروا على البلقان ووصلوا الى ابواب فيينا وحاصروها لكن سحقهم ملوك اوربا بقيادةالكرسي البابوي.

اقتصر دور دولة الخلافة الاسلامية ازاء البلدان الخاضعة لها  على الحماية والامن دون تقديم أى خدمات أخرى . فى المقابل استنزاف موارد تلك الشعوب من خلال فرض ضرائب على أهلها  لاتعد ولاتحصى  منها ضريبة تسمى ضريبة "الميرى" بنسية 22% لحساب السلطان العثمانى ، ونقل العمالة المهرة الى الاستانة  . الامر الذى أدى لخراب تلك البلدان  . ونظرا لتولى العثمانيين أمر الحماية ، لم يكن للشعوب الخاضعة جيوش نظامية . لذا بعد سقوط الخلافة وقعت هذه البلدان فريسة سهلة فى يد الاستعمار الجديد بريطانيا وايطاليا وفرنسا .

بعد انكسار الاتراك فى الحرب العالمية الاولى ، جرت محاولة من قبل اليونانيين  فيمابين عامي 1919 و 1922 لاسترجاع القسطنطينية من العثمانيين لكن انتهت بالفشل . وأثناء الحرب العالميه الثانيه أراد الزعيم الايطالى  موسوليني الهجوم على تركيا وإستعادة القسطنطينيه وتأسيس الدوله البيزنطيه الثالثه لكن تلاحق أحداث الحرب العالمية الثانيه لم يعطه مجالاً لفعل ذلك . وهناك مقولة رومية تقول : " :قسطنطين الأول بناها … قسطنطين الحادي عشر خسرها .. و قسطنطين اخر سوف يستردها " . انهارت الامبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الاولى ،  وتم خلع السلطان محمد السادس ، ووصل للسلطة مصطفى كمال اتاتورك عام 1922  وأسس الدولة التركية الحديثة . قام اتاتورك بتغيير اسم العاصمة "اسلام بول" الى اسطنبول ، ودعا إلى علمانية الدولة والغاء الخلافة الاسلامية التى استمرت نحو 600 سنة .  ووقع مرسوما رئاسيا تحويل "اجيا صوفيا" من جامع الى متحف . وفى العام 1985 قامت  منظمة اليونسكو بادراج "اجيا صوفيا"   في قائمة التراث العالمي .

واليوم يتبنى رجب طيب  اردوغان ومن وراءه القوميين الاتراك نهج اجداده ، ويتقمص شخصية السلطان الغازى  محمد ال الثانى ، ويسير على خطاه .  فحسب تقرير  نشرته مجلة "ناشونال إنترست" للكاتبة، آرييل ديل توركو، من مجلس أبحاث الأسرة التابع لمركز الحرية الدينية بواشنطن ، ان قرار اردوغان تحويل "اجيا صوفيا"  الى مسجد ليس وليد عاطفة دينية او دعابة انتخابية ، إنما  اسلمة تركيا العلمانية  ، يأتى فى سياق مشروع اردوغان  الكبير احياء الخلافة الاسلامية ،والذى لايكتمل الا من خلال فرض سيطرتها على منطقة الشرق الاوسط . ويضيف التقرير ان طموحات اردوغان  لايقف عند هذا الحد بل نتعداه الى  غزو اروبا .  وما عمليات الترحال او الترحيل القسرى  لملايين السوريين والاسيويين والالاف الجهاديين الاسلاميين  الى القارة الاوربية عبر تركيا  الا خطوة فى مخطط  اردوغان الزحف الى اوربا . وهو مايتوجب على يلدان الشرق الاوسط واروبا التنبه لهذا الخطر  .