بقلم : د. أحمد الخميسي 
 
ثمت ظاهرة غريبة في الفكر الثقافي والسياسي في مصر، وأعني بها : تدوير الفكر الثقافي والأدبي والسياسي، بمعنى اعادة انتاجه بحيث يتفق مع القدر الممكن من التطور، ومع القدر الممكن من تقبل الوسط الاجتماعي له. هكذا حين ترجم طانيوس أفندي مسرحية هاملت لشكسبير عام 1897 وطبعها عام 1902، وقام بعرضها على المسرح ثار الجمهور في الصالة منفعلا غاضبا لأن هاملت لم يسترد عرش والده ! فلم يكن من طانيوس إلا أن عدل النهاية بحيث ينتزع هاملت تاج أبيه ويتربع على العرش، فهتف الجمهور طربا : " يحيا العدل"! 
 
هذا التعديل، أو تدوير الأدب، والفكر ليناسب الحالة المصرية ظاهرة رافقت الفكر المصري الحديث كله. وعندما حاول طه حسين أن يطبق منهج ديكارت في الشك ويتناول بهذا المنهج الأدب العربي القديم، ثارت في وجهه العواصف تطالب بمحاكمته عن كتابه " في الشعر الجاهلي"، حتى اضطر إلى وضع حراسة على بيته خشية المتطرفين، وتراجع طه حسين في الطبعة التالية من الكتاب وحذف ما كان زائدا فيه عن امكانية التطور، واكتفى بتدوير أفكاره بالقدر الذي تتماشى به مع المجتمع. المسرح المصري نشأ وازدهر من تدوير المسرحيات الفودفيل الفرنسية وقصقصة ما لا يصلح منها وإضافة ما يناسب المجتمع إليها. هكذا فإن مسرحية شهيرة هي " السكرتير الفني" التي عرضها فؤاد المهندس، هي أصلا من مسرحيات نجيب الريحاني، وكان قد اقتبسها عن فرقة فرنسية جاءت القاهرة، ولكنه غير شخصية القسيس في المسرحية ووضع بدلا منها شيخ مسلم !
 
ومسرحية سيد درويش الشهيرة " العشرة الطيبة " مأخوذة عن قصة " ذو اللحية الزرقاء" الفرنسية، قام محمد تيمور بتعريبها وتمصيرها ، وبعبارة أدق ، تدويرها ، ثم كتب لها الأغاني بديع خيري، ولحنها سيد درويش لتطابق بدرجة ما أحوال المجتمع المصري. في الأدب المصري كان تدوير الأشكال الأدبية شائعا، وقد كتب عبد الرحمن الشرقاوي روايته " الأرض " على نموذج رواية " فونتمارا " للايطالي سوليني، لكن بمضمون مصري، كما تأثر نعمان عاشور في مسرحية " الناس اللي تحت" بمسرحية جوركي" الحضيض"، وعندما أخذت السينما المصرية رواية تولستوي " آنا كارنينا" وحولتها في 1960 إلى فيلم بعنوان نهر الحب، بطولة فاتن حمامة وعمر الشريف، قامت بتدوير القصة بحيث يتجه البطل إلى حرب فلسطين بدلا من الحرب الروسية، وعدلت الكثير بحيث يتسق الفيلم مع الحالة المصرية. وهناك علاوة على تدوير الأعمال الفنية، وتدوير الأشكال الأدبية، هناك تدوير للأفكار، لكن تدوير الأفكار ظاهرة تشمل التاريخ الأدبي العالمي كله وليس مصر وحدها.
 
وإذا كانت " أهل الكهف" 1933 لتوفيق الحكيم تدويرا جديدا لفكرة من التراث الاسلامي، فإن مسرحية " سالومي" لأوسكار وايلد تدوير أيضا لحكاية سالومي التي اشار إليها الانجيل وإلى أن سالومي رقصت للملك هيرودس لكي تحصل على رأس النبي يحيي، انتقاما منه لأنه رفض محبتها. ومن اكثر الأفكار التي تم تدويرها ذيوعا وانتشارا في الأدب فكرة " القرين" أو " المثل"، وسنجد هذه الفكرة بقوة ووضوح عند الكاتب الفرنسي تيوفيل جوتيه عام 1836 في قصته " الميتة العاشقة " حيث يقول على لسان الراوي: " ومن تلك الليلة ازدوجت طبيعتي بمعنى من المعاني، وصار يوجد في داخلي رجلان لا يعرف أحدهما الآخر". وتظهر بعد ذلك نفس الفكرة في رواية " جيكل ومستر هايد" 1886 لروبرت ستيفنسون، ثم رواية " اعترافات آثم بريء" لجيمس هود 1920 ثم عند ادجار الآن بو في قصته " وليام ويلسون" وأخيرا تنضج عند دوستويفسكي في روايته الشهيرة " القرين " عام " 1846 وصولا إلى " صورة دوريان جراي" لأوسكار وايلد 1891. في كل الحالات يبدو أن التاريخ الفكري يعتمد على عملية تدوير مستمرة للأشكال والأفكار وحتى المذاهب السياسية التي وفدت إلى مصر تعرضت لتعديلات وتدوير لتناسب الحالة ، وحينما أخذت مصر بالاشتراكية عهد عبد الناصر قامت بتعديلها لتصبح عربية تناسب الحالة ودرجة التطور الاجتماعي.