احمد علام الخولى
لم يكن ذهوله أن تلك السيدة إستغاثت ولم ينقذها أحد ولكنه كان مذهولا من تلك الرغبة الجماعية التلقائية لإثبات كذبها ونفى الموضوع كله كأنه لم يكن فتوصل إلى أن هذا نوع من العقاب الجماعى للمرأة لأنها تجرأت وإستغاثت بل وحددت المتحرش وقال لنفسه وهو ينفض عنه التراب هذا ما يحدث لإى صوت مظلوم يرتفع مطالبا بحقه فاللعبة تتم فى صمت ولا أحد يخرج عن القاعدة التى وضعها المجتمع لنفسه ليخدر ضميره المغشوش كتدينه وهى ( أنا ماشفتش حاجة وحتى لو شوفت فهعمل نفسى مشفتش واذا حصل لغيرى مليش دعوة واذا حصل لى أنا كانه محصلش .. إنه حل عبقرى !! )

هذا النص جزء من حوار رائع دار فى عقل أستاذ جامعى كتبه العبقرى يوسف إدريس فى قصته بيت من لحم حيث يحكى
واقعة تحرش فى أتوبيس بطلها هذا الأستاذ الجامعى الذى ركب هذا الأتوبيس لكليته وما حدث أنه رأى إمرأة تقف فى الحافلة بينما رجل صفيق يتحرش بها وبعد قليل تحمس الرجل أكثر من اللازم فبدأ يرفع ثوبها من الخلف والغريب أن كل الحافلة لا تبدى إهتماما حتى من يرون المشهد بوضوح فصرخت المرأة فى ذعر ( الحقونى يا ناس بيقلعنى هدومى) وهنا طبقا لمدرسة (الحقوهم بالصوت) انهال عليها الرجل صفعا وسبابا وتعالت شتائم الناس لها (عاملة شريفة أوى ماتسكتى.. ناس غاوية فضيحة ) وسرعان ما وجدت نفسها ملقاة من الحافلة تصحبها اللعنات هنا لاحظ الأستاذ الجامعى كون ماحدث سلوكا جمعيا أثار اهتمامه بشدة وأراد أن يجد له تفسيرا فصاح فى الركاب يسألهم عن سبب غضبهم على المرأة بينما هى الضحية فانهالت عليه الشتائم والصفعات بدوره ووجد نفسه ملقيا فى الشارع على الأرض يحدث نفسه ..

وقد كتب العملاق يوسف إدريس الذى تمر ذكرى وفاته غدا عن سبب تلك الظاهرة المشينة وغيرها بعد ذلك فى كتابه فكر الفقر وفقر الفكر حيث قال
( إن إهتمام الشيخ بزيادة إنتاج البشر دون إهتمام بجودة هذا المنتج وكيف سيكون مستقبله وشكل حياته ودون الإهتمام بإنتاج شئ أخر أدى لإننا ننحدر ثقافيا وبالتالى سلوكيا وإلى سيطرة الغوغائية لدرجة تهدد وجودنا كله فكلما زاد تعدادنا فى ظل تدنى مستويات التعليم والثقافة كلما هبطت القيم وهبطت قيمتنا وتشردنا بحثا عن موارد المعيشة ..)

ولخص ذلك فى إحدى الجمل الحوارية بمجموعته القصصية أرخص ليالى ( ياصديقى لازم تعرف لما الناس بتفتقر بتنتشر الخرافة وتقل الثقافة وبتخلف كتير فلا فلوس ولا خروج ولا متعة فى اى شئ  هايقعدوا فى البيت يخلفوا عيال يتنطعوا على باقى المجتمع وتتكرر الدورة كل 9 شهور ..)

وقد واجه إدريس حروبا فكرية شرسة ضد أوصياء الدين منها مواجهته للشعراوى فبعد أن كتب توفيق الحكيم مقالا عنوانه حوار مع الله هاج الشعراوى على الحكيم وكفره هو ورجال دين أخرين فكتب إدريس مقالته الشهيرة عن الشعراوى التى وصفه فيها بأنه راسبوتين العرب وكتب ألا وصاية لإحد ولا حق لإحد أن يتدخل في حق غيره فى التعبير والكتابة وقال مابين السلطتين الدينية والحاكمة فإن قدر الحرية الممنوحة للكتاب في مجتمعنا لاتكفي لكاتب واحد !! 

وقد قال وقت تلك المواجهة مع الشعراوى لأحمد هيكل وزير  الثقافة وقتها  (أعطونى تليفزيونا أصنع لكم شعب ) فقد أدرك دور الإعلام وتاثيره فى مجتمع يشكل السمع فيه أهم روافد ثقافته وفكره الذى حاول إدريس من خلال قصصه الواقعية ورواياته ومقالاته أن يدق له أجراس الخطر لينتبه عقله بيد أن صوت الجهل المقدس كان أعلى

كل السلام والرحمة لروح الرائع يوسف إدريس