القمص اثناسيوس فهمي جورج
تفرز المعاهد اللاهوتية العسل الحلو لحكمة الله؛ وتقوم بإعداد الخدام والكارزين بالبشارة الخلاصية المفرحة. لذا تسعى معاهدنا ان تجمع بين الأصالة والمعاصرة في عملية تثاقف تتناسب مع مواجهة التحديات السائدة في محيط الزمان والمكان، لأنها منابر ومنائر يشع منها نور الخلاص في صياغة دراسية ولغة قائمة على الخبرة الليتورجية الحية والأسرار؛
 
فتكون بوقًا لإعلان الإنجيل مشروحًا بالآباء ومُعاشًا في القديسين، نعثر بها على لغة كرازة متجردة من المادية والعقلانية؛ ومن محاولات التغريب التي تحوّل الإيمان لمجرد كود أخلاقي (أخلاقيات)، بينما نسعى لنعرف لاهوتًا حيًا يبث الحياة والحيوية في الواقع الحاضر؛ بعقل ساجد وروح نشطة وحياة غير خاملة.
 
وتتطور رسالة الدراسات اللاهوتية ليكون فيها اللاهوت هو بهجة الخلاص؛ والدراسة هي متعة المعرفة؛ والآباء هم شركة واقتداء؛ واللغات ثروة وغنىً.. فلهذا لا بُد أن تحرص المعاهد على الاستفادة من علامات الزمن الجديد وتحديث معالجة التعاطي مع المضمون المسكوني التعددي؛ عبر مناهج وهيئات تدريس وبرامج؛ وورش عمل؛ وجلسات خبرة متطورة؛ كلٌ في تخصصه؛ لأن العلم اللاهوتي في حد ذاته ليس مجرد مادة للتعليم الأكاديمي المدرسي؛ ولا هو موضوع تأمل نظري (تنظير)؛ لكنه نمط الكيان الروحي بالشركة الحية مع الله الحي (روح وحياة).. لذلك قيل (تعالَ وانظر!!) كي ترى وتعاين وتعي وتفهم وتذوق وتختبر؛ معرفة الخبرة والمعايشة... ودراسة اللاهوت الأكاديمية في المعاهد ينبغي أن تبتعد عن الأمزجة والأهواء والنفسنة والتسييس والشخصنة ؛ لكي تضع طريقًا للنضج الروحي بالتعليم الصحيح؛ حسب اتفاق عموم الآباء (إجماع الآباء)... كذلك التكوين اللاهوتي ليس مهمة فريدة في حد ذاتها؛ إذا ما نظرنا لها من كل الأوجه؛ لكنها قبل كل شيء توصّل إلى ليتورجية الروح وبركات الخلاص؛ لتكون به الكنيسة مستعدة للمجيء الثاني. لذا حَرِيٌّ بالمعاهد اللاهوتية أن تحيا محيطها ومجتمعها بوعي وجدية ؛ معلنة أن الوقت قريب؛ وسط كل هذا الإحباط الكوني والفراغ الابدولوجي ؛ وما يحدث على أرضها؛ وما يجتاز فيه المؤمنون من علامات الأزمنة، والذي هو بدوره يدفعها لتعلن لاهوت الخلاص والرجاء والاستعداد والتهيئة؛ للتوقع العظيم؛ حيث يمتد جسد المسيح ليضم أعضاء كثيرة من كل الشعوب ومن كل الأمم.
 
ومن أهم مهمّات المعاهد؛ صياغة برامجها بحرص؛ لتسليم التعليم الرسولي كاملاً؛ نقيًا من كل إفساد إلى الأجيال، في مواجهة التحديات العقلية والشطحات؛ بتقنية لاهوتية صحيحة غير ناقصة... عبر مناهج بنائية؛ تتضمن جوهر الحق المسيحي في شكل (نظري منطقي) بكل جوانبه وأعماقه؛ وبنور جليّ من الفهم السليم والممارسة الأمينة؛ لتعليم الكنيسة المنهجي عن الخلاص؛ المكنِيّ عنه ب (كنوز المخابئ) ( إش ٤٥ : ٣ )؛ ذلك الخلاص الحي هو ليس فقط ما يُعلن ويُذاع من على منابر الكنائس بالكلمات؛ بل تتواصل ممارسته سرائريًا في جُرن الخبرة الليتورجية الكنسية؛ خلال حياة المؤمنين بالمسيح يسوع في كل جيل؛ لأن التاريخ الإلهي مستمر؛ وأعمال الله العظيمة مازالت تُجريَ؛ وعظائم الله دائمة وليست وقفًا على الماضي؛ لكنها حاضرة؛ ويدوم تكميلها؛ وعصر الآباء لم ينتهِ. فمنذ اباء مابعد الرسل الي اثناسيوس معيار الارثوذكسية وكيرلس الكبير عمود الدين وحتي عصرنا الحالي .
 
كذلك لا بُد أن تهتم المعاهد بالتواصل والتنسيق لتعزيز التعاون فيما بينها؛ على المستوى الأرثوذكسي العالمي؛ لدراسة التعاطي مع ظروف العولمة (بالتحديث المستمر)؛ وما يمكن تحديثه: ]الثابت والمتغير في الكنيسة – الشخص والسُلطة – الأعضاء والشركة – الوحدة والتعددية – المواهب والوحدانية – المعرفة والإيمان – النعمة والجهاد – برامج علم النفس والاجتماع والإحصاء المسيحي – العلوم الإنسانية – المتغيرات الرعوية – التلمذة والبنوة – علوم التدبير والمشورة – إقتصاديات الكنيسة...[. فبهذه المواكبة تسدّ المعاهد أي إخفاق في التعليم في وقت مناسب أوغير مناسب.. وتروي الظمأ الروحي للمؤمنين؛ ليتقابلوا بالخبرة والمعرفة مع الله الحي... لأن المعرفة تغذي العقل؛ والإيمان قادر على فتح القلوب وتحريك الجبال؛ بعد إخفاق الأيدولوجيات المتمركزة حول الإنسان؛ في حل معضلات ومشاكل الإنسان والمدنية الحديثة.
 
وينبغي أن تسعى المعاهد في مسيرة اجتهادها الأكاديمي إلى تجديد الكيفية التي يُطرح بها العلم اللاهوتي لآباء الكنيسة؛ بحيث يعبر عن الاختبار الحي لله في الكنيسة، وأنها تحيا بذات الروح عينه؛ الذي ألهم الآباء وقادهم، بحيث يمكن فهم مضمون الفكر ومواصلة ممارسته في محبة الله الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة وموهبة الروح القدس، وليس عن آراء فلسفية فكرية مجردة؛ لكن بروح نسكية وبإنفتاح للروح يؤدي إلى جمال الشركة مع الله، كإنعكاس لصورة الله وجمالها، وكإنسكاب وفيض الروح على الكنيسة؛ للتعمق في التقليد وفي تفسير الأنجيل بكل الثقافات؛ فللدراسة وللبحث وللتأريخ أهميتهم؛ حتى لا تكون أفكارنا هلامية لا شهادة ميلاد لها، الأمر الذي يجعلها أقرب إلى ثقافة التنزيل من لاهوت وفكر التجسد في لحم ودم التاريخ وواقعه، فعندما يغيب البعد الأكاديمي تكون دراساتنا من نوع (الفاست فود fast food) ولهذا يتعين على المعاهد أن تصون الوعي اللاهوتي حتى لا نتغرب عن وجدان كنيستنا؛ بالمعنى التراثي للكلمة؛ فنعيد الاكتشاف الأصيل للكتاب وللعبادة وللتقليد والتقوى في إستشراف وانتعاش رعوي.
 
وبالطبع لا بُد أن تبادر المعاهد بإجتهاد وسط زمن العولمة الذي أضحت فيه الثقافة الغربية نموذجًا عالميًا، وأصبح الكثير من مبادئها ذات تأثير؛ إمّا إيجابي أو سلبي؛ مثل الفردية والعقلانية والبراجماتية والافلاس الحضاري ... فلا تُولي ظهرها لهذه الأفكار والتيارات؛ بل أن نطعّم ونلقح ونكنسن العالم بفكر المسيح وبخلاصه الثمين ؛ وبما نختزنه في الكنيسة مز ايقونات معاشة وممكنة لحياة التقوى واانسك والشركة الخصبة والرصينة والعبقرية؛ في عمق التأمل وأصالة الإيمان لكل من يريد أن يحيا وان يقبل ويؤمن ويعترف ويمجد .