سحر الجعارة
ما بين «البكينى» و«البوركينى» مساحة شاسعة من القهر والتخبط، مساحة تتصارع فيها «الحريات» مع «الإرهاب»، ويختلط فيها «الرمز السياسى» بـ«المعتقد الدينى»، وتتداخل فيها معانى (الهوية، الخصوصية، الحرية، الاضطهاد، الإسلاموفوبيا، العلمانية).. إلخ الإشكاليات التى تكبلنا جميعاً!.

الأزمة التى اشتعلت فى الساحل الشمالى ليست وليدة اليوم ولا هى مصرية خالصة، لقد بدأت الأزمة فى أوروبا قبل أن تأتى إلينا، لكنها كانت أزمة واضحة المعالم فى فرنسا مثلاً عام 2016، فرغم قرار مجلس الدولة فى فرنسا، أعلى سلطة قضائية إدارية فى البلاد، بإلغاء قرار حظر «البوركينى» على الشواطئ باعتباره: (انتهاكاً واضحاً وخطيراً للحريات الأساسية فى الحركة، والعقيدة والحريات الشخصية)، ورغم ذلك ظل الجدل مستمراً ما بين الأيديولوجية الفرنسية التى تعتبر «البوركينى» مخالفاً للقوانين فى الشواطئ وهى فضاء عام مشترك، وترى أنه: (ترجمة لمشروع سياسى ضد المجتمع مبنى خصوصاً على استعباد المرأة).. وبين أغلبية المهاجرين (تتراوح أعدادهم بين 4 و5 ملايين مسلم فى فرنسا) الذين يؤكدون أن حظر «البوركينى» هو إعلان لسياسة «الخادم والسيد».. وتطبيق مبدأ (العرى أو الرحيل) عليهم!.

قد يكون الشعور بالاضطهاد، (وهو شعور مرضى)، ذريعة للمهاجرين الذى يذهبون إلى أوروبا على أساس أنهم وجدوا «الجنة المفقودة»، ويقبلون بأوضاع معيشية متدنية، وثقافية اجتماعية مختلفة، وبعد أن يتكاثروا وتتوالد الأجيال من صلبهم يحاولون فرض (نمط الحياة) كما ألفوه فى بلدانهم!.

لكن الوضع عندنا مختلف تماماً، فرغم أن «البوركينى» فى الأصل زى «ساتر» فإنه كشف عن عمق العنف الذى يُمارس ضد الحريات العامة فى مصر، وكأنه الابن الشرعى لمشاعر عداء سياسى واجتماعى تفصل عالمين، كلاهما يرفع شعارات براقة عن الحرية لكنه ضمنياً يزدرى الآخر ويحتقر ملابسه ويصفه بأبشع الأوصاف. حين ذهبت الطبقة الثرية لتشترى خصوصيتها، بعدما احتلت الجلابيب البلاجات، لحق بها من تمكن ليلحق بمن يعتبرهم عاهرات وديوثين، وكأنه فى فتح مبين لمنتجعات الصفوة، ليفرض عليهم الاحتشام والعفة والفضيلة المسماة بالبوركينى أو «زى البحر الإسلامى».. وهى مغالطة فجة، فالإسلام أصلاً نزل فى شبه الجزيرة العربية حيث لا بحر ولا من يسبحون.. وكل ما هنالك أنه زى يحاكى الحجاب شكلاً لكنه يحدد ويصف الجسم بشكل لا يقل إغراء عن المايوه العادى!.

عد بالذاكرة قليلاً ستكتشف أن «عمرو خالد وجيله من الدعاة» كانوا يذهبون للطبقة العليا من المجتمع بمحاضراتهم، وحجابهم الذى يسمح بالمكياج ويعتمد على «استرتش كارينا»، وكانت هذه الطبقة «ومن ضمنهم الفنانات» مستهدفة، لأنها تنقل «الموضة» أو بالأدق لأنها تصنع موضة الجيل.. وهى الطبقة القادرة على الذهاب لرحلات الحج السياحى بنفس الدعاة.. وهكذا ولدت نجومية هؤلاء الدعاة بتحجيب الفنانات وفرض الحجاب على بنات المجتمع المخملى.

قبل 20 عاماً كنت وافدة إلى عالم الصحافة، وعشت تجربة يعلمها الكثير من أصدقاء المهنة، حين كانت المذيعة التليفزيونية «كاريمان حمزة» صديقتى، كنت أعتبرها بمثابة أم لى.. وهى أول من أدخل الحجاب إلى التليفزيون المصرى، وكانت تعلم الفتيات كيفية صناعته فى برنامجها «الرضا والنور».. باختصار: أصدرت «كاريمان» كتالوج «أناقة وحشمة» وشاركت فيه كموديل وكانت المرة الأولى التى أرى فيها «البوركينى» قبل تصنيفه بهذا الاسم.. واليوم فقط كتبت شقيقتها «وجدان حمزة» على موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك» أنها من صممته للكتالوج المشار إليه. قطعاً تعتقد «وجدان» أنها حلت مشكلة اجتماعية للمحجبات للحصول على متعة «بما لا يخالف شرع الله».. وللحقيقة لا بد أن أذكر أن لكل منهما عقلية مختلفة.. لأن المفاجأة التى صدمتنى أنا شخصياً أننى رأيت الإعلامية «كاريمان حمزة» على منصة «رابعة» أثناء الاعتصام المسلح لجماعة الإخوان الإرهابية.. ثم قاطعت كل من تعرفهم بعد سقوط الإخوان. ليس لدىّ حكم قاطع على نوايا من جعلوا «البوركينى» عنواناً للعفة والفضيلة، وراية سياسية لإدانة من ترتدى «البكينى» ولمن يصطحبها إلى البحر كـ«ديوث».. فقط أسأل: إذا كان لزاماً علينا -باسم الحرية- أن نقبل البوركينى فلماذا لا يبادلوننا نفس منهج القبول الاجتماعى بل والاحترام؟!.

وبمقاييس الحرية الفرنسية: كيف تحول السيد إلى خادم.. ومتى؟. لماذا يكفرون المرأة السافرة.. ولا يعترفون بأن جوهر الحرية هو الحق فى الاختيار؟.

الواقع يؤكد أننا نحكم على القيم بمعايير مختلفة، وأن ما نطبقه هو سياسة: «لنا غفور رحيم ولكم شديد العقاب»، ورغم أن سنة الحياة هى «الاختلاف»، فإن الاختلاف فى المظهر والسلوك والمستوى الثقافى والاجتماعى والتصنيف الطبقى أصبحت كلها «أدلة إدانة» للآخر. نحن الآن، وأعنى السافرات، من نعانى الاضطهاد والنظرة الدونية، لأننا -ضمنياً- لا نؤمن بثقافة القطيع، إنه صراع على «الوجود» لا علاقة له بالدين. أنا شخصياً أحترم المحجبات ومن يرتدين البوركينى، وأشعر أنهن يمارسن حقهن فى التمتع بالحياة.. لكن هذا لا ينفى أن بعض النساء ترتديه ولو من باب «الحشمة».. وفى حال الإقصاء والاستبعاد سنجد أنفسنا أمام بلاجات وحمامات سباحة مخصصة للرجال وأخرى مخصصة للنساء.. وهذه كارثة فى تقديرى. لقد كنت شاهدة على ظهور «البوركينى» فى مصر وأدليت بشهادتى.. وتركت الحكم للقارئ.. كل ما أسعى إليه هو أن تسود فكرة التعدد فى المجتمع، والتعايش السلمى بين أفراده بدلاً من تكريس العنصرية والتمييز وازدواجية المعايير.. أما أفعل التفضيل فلا مجال لها بين مواطنين متساوين بل وأسوياء.
نقلا عن المصرى اليوم