لماذا يكره الإخوان الثقافة المصرية؟
عندما سأل عبد الناصر الهضيبي: هل بنتك بتروح السينما؟

محمود دوير
يحتفل المصريون ب ثورة يوليو 1952'>ذكرى ثورة يوليو 1952. هذا الحدث الذى يمثل أحد أهم حلقات الثورة الوطنية المصرية التى تمتد لما قبل ثورة عرابى ورفاقه عام 1881 فى رحلة نضال ممتد بحثا عن الحرية والإستقلال والعدل.

ولعل البعض قد يتساءل وما علاقة عنوان المقال بهذا؟
والحقيقة أن العلاقة وثيقة فثورة يوليو لا تمثل حدثا سياسيا أزاح حكم أسرة محمد على التى حكمت منذ عام 1905.

بل أن تأثير “يوليو ” الاقتصادى والاجتماعى بمثابة ثورة كبرى وعارمة أحدثت تغييرا جذريا فى تركيبة المجتمع المصرى وأعادت توازن لم يعرفه المصريون فى العصر الحديث على أقل تقدير
لكن التاثير الثقافى للثورة كان أحد مفردات وانجازات هذا الحدث السياسي الكبير.

فقد عرفت مصر لأول مرة مفهوم “الخدمة الثقافية ” وتتحول الثقافة إلى خدمة تقدمها الدولة وحق لكل مواطن مثل التعليم والصحة والإسكان وغيرها من ضروريات الحياة.

وكان أنشاء وزارة للثقافة لاول مرة عام 1958 بعد ان كانت مؤسساتها تابعة لوزارة المعارف – التعليم حاليا – ولعل المشروع الثقافى الذى تبناه “ثروت عكاشة ” يمثل البنيان الرئيس للثقافة الرسمية المعاصرة من حيث المؤسسات والدور المؤثر فى حياة المواطن.

وكان انشاء الثقافة الجماهيرية بما يحمله من دلالة على توجه الدولة نحو المواطن البسيط وتقديم خدمة ثقافيه فى كل القرى والنجوع ويعتبر الراحل العظيم “سعد كامل “هو صاحب تلك التجربة الرائدة والإستثنائية فى مسيرة الوعى المصرى وقد استطاع خلق حالة غير مسبوقة من خلال تلك المؤسسة الجماهيرية التى هبطت بالثقافة والفنون من علياء النخب وسكان المدن الكبرى إلى الفلاح والعامل المصرى البسيط فقدم تجارب ملهمة منها مسرح الجرن وسينما الشارع ( حين كانت تعرض الأفلام فى الميادين العامة والقرى ) وتكوين فرق مسرحية وموسيقية لعمال المصانع والحرفيين وصارت الخدمة الثقافية حقا لكل مواطن.

فى بدايات ثورة يوليو وخلال فترة الهدوء – الحذر – بين ضباط يوليو وجماعة الإخوان المسلمون التقى الرئيس جمال عبد الناصر بمرشد الجماعة المستشار حسن الهضيبى ويكشف الكاتب عبد الله امام فى كتابه “عبد الناصر والإخوان المسلمون” نص حوار ناصر والهضيبى قائلا “ورأي المرشد العام أن تصدر الثورة قانونًا بعودة الحجاب إلى النساء حتى لا يخرجن سافرات بشكل يخالف الدين، وأن تغلق دور السينما والمسرح “.

ويأتي رد عبد الناصر، موجهًا خطابه إلى المستشار الهضيبي، على النحو التالي: “بعدين هل بنتك بتروح السينما.. ولا ما بترحش؟ بتروح السينما.. طيب إذا كان الراجل في بيته مش قادر يخلي أولاده أو بنته ما ترحش السينما، طيب عاوزني أقفل السينمات ليه.. السينمات إحنا علينا واجب أن نعمل رقابة عليها وعلى المسارح حتى نحمي الأخلاق “.

وقد كشف عبد الناصر خلال أحد خطبه العامة بعد الصدام بين الجماعة والثورة عن بعض تفاصيل هذا اللقاء الذى جمعه بالمرشد.

وكانت الجماعة قد أصدرت بيانا شهيرا بعد أيام من اندلاع ثورة يوليو مباشرة قالت فيه “من مطالب الجماعة: “أن تعمل الحكومة على تحريم ما حرم الله وإلغاء مظاهر الحياة التي تخالف ذلك، مثل القمار والخمر ودور اللهو والمراقص والمجلات الجنسية المثيرة للغرائز الدنيا ” وهكذا وضعت الجماعة دور السينما فى نفس مكانة القمار والخمر فى الوقت نفسه فقد عارضت الجماعة بشدة قانون يوليو للاصلاح الزراعى باعتباره يخالف الشريعة الإسلاميه وشنت حملة ضد توزيع عادل للثروة وعودة الأراضى الزراعية للفلاح المصرى بعد قرون من الذل والاستعباد!!.

وفى عام 1977 شنت مجلة الدعوة لسان حال الجماعة هجوما عنيفا وقاسيا على السينما وصناعها واعادت فى عددها السابع عشر – أكتوبر 1977 – نشر البيان الذي أصدره الإخوان المسلمون بعد أيام من قيام ثورة 1952.

وكشفت الجماعة خاصة فى فترة حكم الرئيس أنور السادات عن رفض قاطع للسينما والمسرح بشكل كامل وشهدت الجامعات المصرية فى ذلك الحين هجوما متكررا وعنيفا جدا من جانب الإسلاميين على كل الأنشطة الفنية وتم الاعتداء على طلابها تحت سمع وبصر أجهزة الأمن والحرس الجامعى .
لم تستخدم الجماعة نظريتها الشهيرة والمعروفة بـ “التقية” فى السياسة وعلاقتها بالحكام فقط بل استخدمتها أحيانا كثيرة فى علاقتها بالمثقفين خاصة فى مراحل المد التقدمى خلال عقدى الخمسينيات والستينيات ومن ثم كشفت عن وجهها الحقيقى الكاره الفن والثقافة بعد خطوات الرئيس السادات نحو استيعابهم وعودتهم للمشهد مرة أخرى بغرض استخدامهم فى صراعة المحتدم مع اليسار بكل فصائله.

فى العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين لجأت الجماعة إلى منهج لا يقل قسوة عن التصفية الجسدية وهو منهج التصفية المعنوية ومحاكم التفتيش للمثقفين وساهم فى تشويه صورة الفنان والمثقف لدى المواطن وظلت كل التهم تأخذ منحى أخلاقى أو عقائدى واستخدمت آلة دعائية وامكانيات التمويل العربى الهائلة لهذا الغرض تحت سمع وبصر الدولة حينذاك.

وظل المثقف والفنان المصرى الحقيقى قابضا على الجمر .. بين شقى رحى فيما بين التضييق الرسمى ومحاذير الرقابة ومخاوف المصادرة والمنع من جهة ومحاكم تفتيش الجماعة والتشكيك فى سلامة إيمانه وصحة عقيدته الدينية من جهة أخرى وقع المثقف فى بئر العزلة أو القلق ونجا من ذلك القليل القليل .

تدرك الجماعة دائما خطورة الثقافة والفنون على مشروعهم فى اقامة دولة الخلافة وتدرك أكثر عمق الثقافة الوطنية رغم كل العطب الذى أصابها والتشوهات التى لحقت بها خلال العقود الأخيرة وليس غريبا لجماعة تكره مصر وحضارتها بهذا الشكل أن تجاهر بالعداء والخصومة مع قوتها الناعمة التى ستظل الحائط الصد المنيع ضد أى محاولة للعبث فى الهوية المصرية وروحها المبدعة .
نقلا عن الأهالى