د. محمد عثمان الخشت
لا يمكن تأسيس خطاب دينى جديد ، دون بيان خطورة العقل المغلق الذى يستعصى على أى تجديد حتى ولو كان التجديد بالعودة إلى المنابع الصافية للمتن المقدس « القرآن الكريم والسنة الصحيحة » فى مقابل المتون البشرية. ولم يخطر فى بالى يوما أن أحدا من المتدينين سوف يعارض العودة إلى الوحى المقدس فى مقابل الاجتهادات البشرية المتغيرة بتغير العصور. ولم أتصور يوما أن أحدا سوف يرفع بعض المتون البشرية إلى منزلة النصوص التى لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؛ فقد اعتقدت دوما أن هذه سمة للوحى المقدس وحده، وتصورت أن هذا محور من محاور عقيدتى فى توحيد الواحد الأحد، ذلك الواحد الأحد الذى يمتاز وحيه بأنه لا اختلاف فيه ولا تناقض ولا تفاوت ولا نقص، فكيف يزعم زاعم أن متنا بشريا يمتلك هذه الصفات التى يمتلكها الوحي؟!

ربما يكون أحد أهم أسباب ذلك،هو العقل المغلق المتمترس بالتعصب لفرقة من الفرق البشرية؛ حيث تجد أن هذا العقل المغلق مقفول على ما حفظه من متون هذه الفرقة بوصفها متونا مقدسة، ولا يستطيع أن يفهم أو يتفهم سواها بسبب وجود معوقات على حدود هذا العقل المغلق، بل وفى بنيته تعوق تفكيره عن التوصل إلى رؤية الواضحات البينات. وقد سبق أن تناولت جانبا من هذه المعوقات فى مقدمة دراستى وتحقيقى لكتاب الشوكانى « أدب الطلب ومنتهى الإرب » الصادر عام 1985م عن مكتبة القرآن. ومن هذه المعوقات أمام العقل المغلق: النشوء فى جماعة متمذهبة بمذهب معين وتقليد المذهب دون تبصر، وحب الجاه والنفوذ والمال والجدال والمراء وحب الانتصار والظهور، وحب القرابة والتعصب للآباء والأجداد، وعدم الرجوع إلى الحق الذى سبق أن قال بخلافه، وعدم رؤية الصواب لأن المتكلم به من غير أنصار المذهب، والاستناد إلى قواعد ظنية، وعدم الموضوعية فى عرض حجج الخصوم، وتقليد المتعصبين من بعض القدماء، والمنافسة بين الأقران بلا تبصر، والاغترار بمجرد الاسم عن المسمى...»، أضف إلى ذلك أن التعصب قد يدفع المتعصب إلى الكذب فى نقل كلام خصمه وتحريفه وإسناد أقوال إلى الخصم لم يقل بها!

ومنذ سنوات تم رسم بروفايل للعقل المغلق فى كتاب «نحو تأسيس عصر دينى جديد»؛ فالعقل المغلق مثل الحجرة المظلمة التى لا نوافذ لها، ولا يدخلها النور، ولا يمكن لمن بداخلها أن يرى شيئا سوى ما اعتاد عليه. وهى حجرة لا يدخلها هواء جديد، ومَنْ بداخلها لا يتنفس إلا هواء قديما أما أكسجين الحياة المتجدد فلا يمكن أن يصل إليه!

إن صاحب العقل المغلق أشبه بالطفل فى رحم الأم، كل عالمه هو هذا الرحم، وهو غير متصل مع العالم الخارجي، ولا يمكن لأحد أن يحاوره، ولا يمكن أن يخرج من هذا العالم المغلق بإرادته، إنه يظن أن الخروج من هذا العالم مهلكة، وهو يصرخ بأعلى صوته ويتلوى ويرفس عند إخراجه قسرا!.

ولذا لا يستطيع صاحب العقل المغلق أن يتجاوز ذاته أو عالمه الخاص،ومن المستحيل أن يرى أى شيء خارج عقله ولا يستطيع أن يتجاوز أفكاره المظلمة ولا يمكنه أن يرى غير أفكاره هو، ويعدها يقينية قطعية لا تقبل المناقشة، بل يصل به الحد إلى الاعتقاد أن آراءه ذات طابع إلهي، وأن الله تعالى معه! بل إنه ممثل الله على الأرض. ويتصور أن الله ليس رب العالمين كلهم، بل ربه هو فقط.

وعندما يدخل فى صراع مع أحد، فالبديل الوحيد عنده هو إعلان الحرب المقدسة؛فهو وحده على طريق الحق والخير، وغيره كافر، أو عَلماني،أو ضال، أو شرير.وهكذا يتحول معه العالم إلى: أبيض وأسود، ملائكة وشياطين، دار السلام ودار الحرب.وهذه الحالة من الانغلاق العقلى التى يعيشها تجعله منفصلا تماما عن الواقع؛ أسير أوهام يعدها مقدسة ومنزهة!

وليس بوسع أحد أن يفرض على العقل المغلق الذى ينطلق من موقف عقائدى مغلق قواعد وقوانين من خارج مفاهيمه وحقائقه هو؛ لأنه هو الذى يحددها ويختارها ويلتزم بها بمقدار ما تخدم قضيته، وبما تتناسب مع الظروف التى يكافح فيها.ومن هنا فإن قاعدة الضرورات تبيح المحظورات مستخدمة عنده على أوسع نطاق لتحقيق مصالحه الخاصة وأهوائه، والضرورة عنده ليست هى الخط الفاصل بين الحياة والموت مثلما قال الفقهاء، بل هى الخط الفاصل بين مصالحه الشخصية والمبادئ الأخلاقية العامة، وعندما تتعارض مصالحه مع الدين أو مع الأخلاق أو مع المصالح العامة، يقوم على الفور بإعادة تفسيرها أو بالقفز عليها. ولا مانع عنده من تغيير موقفه السياسي، فالمهم أن يظل صاحب نفوذ.

لاحظ معى أن العقل المغلق ينتقل من الموقف لنقيضه تبعا لأوهامه التى تتخذ نقطة ارتكاز مخادعة، ونقطة الارتكاز ليست هى الدين أو الوطن أو المصالح العامة، إنها فقط أهواؤه ومصالحه الشخصية المؤقتة. وهى نقطة مخادعة لأنه يوهم نفسه ويوهم الآخرين فى كل مرة أنها نقطة ارتكاز الدين أو الوطن، بينما هى فى الحقيقة نقطة ارتكاز مصالحه الشخصية!

وحتى لا أطيل على القارئ، ألخص له مجموعة السمات التى يتسم بها صاحب العقل المغلق من بعض كتبي، مثل «العقلانية والتعصب» و«نحو تأسيس عصر دينى جديد»، وهي:الاستئثار بالحقيقة، أى يزعم أنه وحده الذى يعرف الحقيقة المطلقة، وعدم الرغبة فى فتح قنوات للحوار مع الآخر، وهو إذا اضطر لفتح الحوار لا يقدم أى تنازلات عندما تظهر له الحقيقة، كما أنه لا يدخل فى عهد إلا إذا كان ضعيفا ومضطرا، وعندما يقوى يقوم بنقضه على الفور والتقية هى سلاحه الذهبى فى خداع الآخرين، ولا يبحث عن الأرضية المشتركة مع التيارات الأخرى، وينغلق على نظام قيم معين بصورة جامدة، وتحكمه ثقافة التسلط، حيث الرغبة فى التحكم التام فى الآخرين وفرض أفكاره ورغباته وطريقة حياته عليهم، علاوة على إصراره على نفى الآخر، أى يعد المخالفين له على الباطل المطلق أو كفرة!

ومن غير الخفى أن العقل المغلق ليس فقط طابعا يميز بعض التيارات الدينية الأصولية، بل هو طابع بعض الحركات الشيوعية والعلمانية أيضا التى تعتقد أنها تملك الحقيقة المطلقة!ويظهر العقل المغلق كسمة أيضا وبوضوح فى بعض المواقف الاستعمارية الغربية التى تتخذ موقفا معاديا من الحضارات الأخرى وتزعم أن نموذجها الحضارى هو النموذج الأمثل بشكل مطلق! ولذا فهى تعمل جاهدة على تعميم هذا النموذج من خلال العولمة وترسيخ مفهوم صراع الحضارات، التى تنظر فيه إلى حضارتها كممثلة للمدنية أما الحضارات الأخرى فهى بدائية!وهنا فالقوى الاستعمارية لا تعمل إلا لتحقيق مصالحها الخاصة، بل تعمل على تدمير الآخر، مرة بالحرب المباشرة، ومرة باستراتيجية «فرق تسد»، ومرة بذرع بذور الفتنة الأهلية بين أبناء الوطن الواحد، وفى كل هذه الاستراتيجيات ترفع شعار الديمقراطية، والحوار، وحقوق الإنسان!

لقد كان الاستعمار حاضرا فى كل مرة:حروب التتار و الحروب الصليبية على الشرق، وفلسطين الحديثة وأفغانستان، وباكستان، والعراق، وتونس، واليمن، وليبيا وسوريا، والوجهة هذه المرة هى مصر! وبالإستراتيجية نفسها المستخدمة فى العقود الأخيرة «التحالف مع التيارات الدينية المتطرفة»! والتحالف مع الخونة الذين باعوا أوطانهم بحفنة دولارات تحت شعارات مزيفة!لكن مصر التى أوقفت الزحف التتارى القديم، قادرةعلى أن توقف المستعمرين الجدد الذين يوظفون الخونة من بعض أصحاب العقول المغلقة كعرائس ماريونيت.
نقلا عن الأهرام