قبل عدة شهور كان لدي دراسة أحاول إتمامها، لكن بعض المعلومات الناقصة بالكتب والمراجع جعلني أقرر أنه لا مناص من زيارة للمركز الكاثوليكي تعودت على اللجوء إليه منذ بدأت عملي بالتليفزيون المصري، فقد كان المركز الكاثوليكي بالنسبة لي هو أحد أهم مصادر المعلومات السينمائية، إضافة إلى أرشيف دار الكتب المصرية، لكن الأخير يُعاني من إشكالية أن كثيرا من الملفات والمجلات القديمة لن تتمكن من مطالعتها لأن الرد الجاهز باستمرار «في الترميم»، وهذا الترميم لا ينتهي أبداً.. فقد ظللت ثلاث سنوات أثناء رسالة الماجستير أتردد على دار الكتب، على أمل أن ينتهي ترميم تلك المجلات التي أحتاج إليها، لكن من دون جدوى.

بالبحث عن جذور الثقافة السينمائية في مصر ستجد الوثائق تُثبت أن المركز الكاثوليكي الذي تم تأسيسه منتصف عام ١٩٤٩ على أيدي الراحل فريد المزاوي هو أول كيان مصري يتولى تلك المسئولية بعيداً عن غرض التربح. وإذا كانت هناك رسوم مرتفعة حاليا مقابل الاطلاع والتصوير فهذا للضرورة ولتغطية مصاريف المكان من صيانة وشراء الأحبار وأوراق التصوير والمجلات والصحف، ودفع مرتبات الموظفين من أجل الحفاظ على المكان الذي يقوم بذاته من دون أن تسانده جهة ما، وفق ما أوضح لي العاملون هناك.
المركز دعم الإنتاج السينمائي

يُحسب للمركز الكاثوليكي محاولاته المستمرة - ومنذ نشأته - في أن يُقيم رابطاً بين الجمهور والفن السينمائى، وإتاحة الفرصة لذلك الجمهور بمشاهدة تلك الأفلام، والإصرار على مواصلة أنشطته السينمائية في فترات عديدة حتى عندما تعثرت الجهات الأخرى عن مواصلة الأنشطة السينمائية أحياناً، فقد ظل المركز منصة مهمة لمواصلة دوره التثقيفي والأخلاقي، وتكريم فريق العمل الفني ونجومه. كذلك، كان المركز - وإيماناً منه بدعم الإنتاج السينمائي في مصر - يُسهم في الترويج لعدد من الأفلام المصرية، داخل وخارج مصر، خصوصاً تلك الأفلام التي تحث على قيم أخلاقية وفنية تتناسب وقيم المجتمع.

حين زرت المركز قبل شهور قليلة، ورغم أزمة كورونا، كانت السيدة الملتزمة والدقيقة منى البنداري متواجدة تقوم بدورها رغم نصيحة الشباب لها هناك بأن تتوقف عن الحضور وتؤجل العمل، لأنها تضطر لاستخدام المواصلات العامة، مما يُشكل خطورة عليها، لكنها ترد عليهم بعزيمة: أنا أقوم بالاحتياطات اللازمة، وهنا كثير من المجلات والصحف لا بد أن أُكمل العمل عليها حتى لا يتراكم العمل.
عبد الفتاح والبنداري

رؤيتي تلك السيدة البشوش المثابرة في عملها تذكرني بالباحث السينمائي المخلص والدقيق محمد عبد الفتاح- رحمة الله عليه- كان يعمل في دأب وصمت ودون ضجيج أو ترويج إعلامي لنفسه، حتى عندما نال جائزة الدولة عن أحد كتبه، ورغم أن كتاباته البحثية ودراساته خصوصاً عن الشخصيات من أهم ما كُتب عن الشخصيات السينمائية في مصر.

إنه مَنْ عرّفني عليها، وأوضح لي أن منى البنداري منذ سنوات وهبت نفسها لذلك العمل، فهى من مواليد يوليو ١٩٤٦، درست النقد بالمعهد العالي للفنون المسرحية وعملت كباحثة بالمركز القومي للسينما، وفي عام ١٩٨٢ حصلت على جائزة شرف من المركز الكاثوليكي لدورها في مجال الثقافة والبحث السينمائي.

من أعمالها «الأفلام التسجيلية في مصر حتى عام ١٩٨٠»، مثلما شاركت في إعداد بعض القواميس والموسوعات السينمائية منها «موسوعة السينما العربية» مع محمود قاسم ويعقوب وهبي، وكذلك «دليل السينمائيين في مصر» عن المخرجين وكتاب السيناريو والمصورين والمونتيرين، وهو إنجاز مهم للمكتبة السينمائية.

في هذا المركز، أيضاً، وأثناء فترات البحث المتباعدة التقيت بمديره، آنذاك، الأب يوسف مظلوم، وتحدثت معه مرات عدة فكان يمنحني طاقة إيجابية تزيدني قوة وتفاؤلاً.

أما الأستاذ ميشيل إسكندر، سكرتير المركز، آنذاك، فكان في أي وقت أحتاج فيه لمعلومات ضرورية عاجلة فبمجرد أن أطلبه هاتفياً وأخبره بالملفات التي أريدها كان يُجهزها لي ويقوم بتصويرها لأستطيع إنجاز مهمتي قبل موعد إغلاق المكان، وفي جميع المرات كان مرحباً ودوداً بابتسامة لا تفارقه.
عن دراسات ناجي فوزي

هناك، أيضاً، التقيت بشخصيات عديدة كنت أقدرها، وجميعهم كانت لهم أيادٍ بيضاء على مسيرتي واختياراتي حتى وإن بشكل غير مباشر أحياناً، فهناك التقيت بالأستاذ الراحل أحمد الحضري عدة مرات، والأستاذ محمد عبد الفتاح، والباحث الراحل يعقوب وهبي، كذلك الدكتور ناجي فوزي الذي عندما التقيت به للمرة الأولى نصحني بإخلاص بضرورة العمل على الماجستير والدكتوراه. يومها تحدثنا عن كتبه وإصداراته وبحثه الجديد.

تعددت، وتنوعت مؤلفات دكتور ناجي ما بين الرواية والبحوث والدراسات السينمائية التي اهتمت بالتشكيل وتقنيات التصوير السينمائي، خصوصا أنه مارس التصوير السينمائي في بداية حياته، مما أضفى على دراساته زوايا وجوانب جديدة للرؤية، ويتضح هذا بقوة في كتابه «الشرطة في عيون السينما في مصر» خصوصاً أنه درس وتخرج في كلية الشرطة ومارس هذا العمل لسنوات؛ فمنح دراسته ميزة إضافية.
عيد الرُسل

كذلك من مؤلفاته المهمة «قراءات خاصة في مرئيات السينما» وفيها يعيد قراءة جماليات أفلام «بداية ونهاية»، «المومياء»، «الشوارع الخلفية»، «زوجتي والكلب»، «ليل وقضبان»، «العصفور»، و«شفيقة ومتولي»، حيث يتناول الديكور والضوء والشكل واللون والبعد الزمني الميتافزيقي، وليس فقط تحليل مدلول الحدث والحوار والتمثيل.

والمركز يقترب حثيثاً من يوبيله الذهبي أمسك بين يدي الآن كتاب «المركز الكاثوليكي المصري للسينما.. خمسون عاماً من الثقافة السينمائية» وهو دراسة توثيقية تحليلية بتوقيع فوزي، وبدعم ورعاية المهندس نجيب ساويرس الذي بادر، آنذاك، برعاية ذلك الاحتفال لأحد أبرز الرسل في نشر الثقافة السينمائية الرفيعة.

وفي الختام، أقول لكل الأعزاء بالمركز الكاثوليكي، ولجميع الأخوات والإخوة المسيحيين: كل عام وأنتم بالخير والسعادة والسلام، بمناسبة عيد الرسل.
نقلا عن مصراوى