محمد حسين يونس
مرت علي بلدنا أيام سوداء حالكة شديدة الظلمة .. كان المصرى فيها يخطف إبن الجيران و يذبحة و يأكله .. و مرت علي أجدادنا أيام رخاء .. كان الخير فيها يعم .. ويفيض و يتم تصديره لبلاد المغتصبين سواء شمالا أو شرقا .. 
 
المصرى عاش معظم تاريخة .. جاهلا .. أميا .. مريضا فقيرا .. مضطهدا .. متوجسا من حكامة .. يبغضهم .. وفي نفس الوقت مستسلما .. لقوات الامن التي لا ترحم.. و الجباة الذين لا يملون من حلبه ..و الكهنة الذين لا يتوقفون عن دعم الغاصبين ...و تسكين المضطهدين بالأمل في جنات الخلد. 
 
مستبدى مصر .. من أبناء محمد علي ..عندما كانوا ملوكا .. كانوا بشعين أنانيين .. يريدون وئد الحركة الديموقراطية الناشئة .. و إطفاء أنوار القرن التاسع عشر و منتصف العشرين .. و التحكم فينا (كميراث ) أجدادهم.. تحكم المالك فيما يملك
 
عندما (ورثنا عنهم ) الضباط لم يكونوا أفضل من الملوك .. قادونا عبر تهويمات (قومية ، دينية ، يسارية ، يمينية ، إصلاحية ، كومبرادورية ) إلي الدرك الاسفل بين الامم .. ننهزم .. نستدين .. نتسول .. و نلف و ندور نتنقل من مائدة لاخرى متطفلين .. حتي أصبحنا ما نحن علية الان في جمهوريتهم الثالثة .. نحاول أن نقاوم السقوط الطبقي و نتمسك بموقعنا دون جدوى .. نهلل طلبا للعون ونحن نعرف أن لا أمل أو مردود .
 
لقد تسلط علينا المليارديرات عباد المال ..الاكثر قسوة  في الجباية بين كل الذين جلسوا علي دكة الحكومة.. و لم يعد لنا أمام سلطتهم مخرجا .. نلعب لعبة القط و الفار مع  المحصلين ..و نهرب منهم أو ننتظرالموت بترحاب .
 
كيف تحول الشعب الذى خرج ينادى بزوال النظام  في 25 ينايرو قدم الشهداء و واجه المدرعات بصدر مكشوف .. إلي هذا الوضع المستأنس المستسلم .. المحزن ؟
 
الخطابات الدينية ( للعمة البيضاء و أختها السوداء ) بمصر ، الاعلام المروض بواسطة السلطة و رجال الاعمال ، التعليم المنهار الذى يخرج الاوائل فيه بالغش و التدليس .. القوانين المجحفة المضادة لمصالح الشعب و المعنية بحصانة بعض المواطنين ..و العدالة البطيئة المكلفة .. الديموقراطية الشكلية التي صاغت دستورا و برلمانا  علي هوى الحكام .. الاقتصاد المترهل الذى أغلب صفقاته  تتم خارج الشرعية  ولا يدفع  عنها ضرائب بقدر ما  يدفع  صاحبها أتاوات .
 
و النتيجة سيادة  (فقر الأخلاق و..أخلاق الفقر) و العوز و إباحة المحظورات و إستغلال المحتاجين لبيع أجسادهم أو لترويج المخدرات او دعم شبكات السياسة.. و الرقص أمام لجان الإقتراع .
 
كيف تحول المصريون إلي هؤلاء التعساء .. المغيبين ؟؟
هذا الشعب لم يصادف حكومة رشيدة خلال قرن من الزمان (1919- 2020 ).. تراعي مصالحة و تقوم  بتنفيذ خطط تنمية .. مستديمة .. لقد  وقع في متاهة ..الفكر الديني .. الذى يحض علي السكون و الاستسلام و الرضا بواقع الامر ... و إطاعه الرؤساء الدينين و الدنيوين .. و التوقف عن العمل .. فالرزق  مقدر و موجود في السماء ولكل مولود نصيبه.
 
الشعب لا يعمل (بجد ) إلا أن يتكاثر بمتوالية هندسية .. يتصور أن حكامة سوف يقومون علي تغطية إحتياجاته  .. فيخرج في الشوارع يغني لهم ..( تسلم الايادى) ..التي وقعت وثائق رفع الدعم وقروض لن تدمر هذا الجيل فقط بل أجيال متتالية لقرون
 
الضربات المتتالية .. لهذا الشعب المستكين لقدرة .. المحتمل أخطاء قياداته و تفاخرها بتخريب حياته و إقتصاده علي أساس أنه الاصلاح المرتقب منذ عقود طويلة .. جعلت الصمت ..أبلغ من الحديث .. و التأمل خير من الهتاف و الصراخ و الزعيق .. و السكون و الانشغال بأتفه الاعمال .. هو المهرب من طرقات مرزبات السقوط الطبقي المتتالية التي تصعق بها السلطة مواطنيها المستعبدين بذل لقمة العيش ..و لا حول لهم و لا قوة . 
 
لا أؤمن بالتفاؤل و التشاؤم ..و لا بالمعجزات ولا بأن عصرنا به  أيات و خوارق أرسلتها العناية  لنجدتنا  ..و لا أرى ..أن للدعاء و الذهاب لأولياء اللة .. فائدة .. لحل مشاكل المضرورين 
 
تصور إنحياز السماء لشخص ما .. او لفريق او مجموعة من البشر .. امر في غاية الغفلة و التسطح .. لمعني وحدة الوجود .. و الحيادية بين الكائنات.. و لسمو الذات العليا .
 
إن تخيل أن يزرع أحدهم تين شوكي فيحصده تفاحا ببركة ما .. مهما كانت قوتها أو قدرتها .. بالنسبة لي هو شكل من أشكال اللامنطق ألذى لم تمارسه الطبيعة ابدا
 
القوانين التي تسير الكون صارمة .. حاسمة .. لا تتغير مهما حدث .. و الشمس لن تتوقف عن المغيب في موعدها .. لاى سبب .. وإذا حدث .. فان الحياة كما نعرفها  قد تتعرض للفناء .. وقد تبتلع الأرض..سيارة او نجم .. يترصد بكوكب عاق أن يخرج من منظومته
 
الاحداث التي يشهدها البشر .. تخضع لقانون .. ان المقدمات .. تؤدى الي النتائج .. كما لو كنا نعيش في معمل .. إن وضع القاعدى مع الحمض يعطي ملح وماء .. لو فعلتها مليون مرة فستحصل علي نفس النتيجة بدون اى إنحراف ..
 
إلا إذا تدخل عامل أخر ..
عندما اسلم اللص مفتاح الكرار .. فانا أحكم علي الكرار بالافراغ .. و عندما .. اتسول من شخص فانا أخضع لشروطه .. وعندما أقترض علي إرجاع القرض و فوائده صاغرا دون شكوى.. و عندما أبدد ثروة أبي الموروثة فلن يخرج من القبر ويجددها لي
 
هذه الفرضيات البسيطة .. تغيب عنهم .. هناك في بلدنا .. حيث .. كان يجلس (الدهماء و السوقة ) حول معمم ملتح .. يدعون.. ((يا ربنا يا متجلي داهية تاخد العثمانلي)) .. و المتجلي يتركهم .. في غيهم لثلاثمائة سنة (من 1500 الي 1800 ) .. ومع ذلك يجلسون في نفس المكان يدعون ((يا ربنا يا عزيز داهية تاخد الفرنسيس )).. و العزيز لا يأخذ الفرنسيس .. ولا ألإنجليز  و يجعلهم يلبدون لسبعين سنة .
 
ما أعتقده هو قدرة الانسان علي الدراسة و التحليل والفهم و التقدير و العمل و المتابعة و التصحيح ..اما البركة و الدعاء و التفاؤل ..و المعجزات و الخوارق ..فلا مكان لها في راسي. 
 
25 يناير 2011  بهذه القوانين و القواعد .. تمثل نقطة التغير النوعي .. في حياة هذا الشعب ..
 
فقبلها كان يحكمة بقايا الطبقة المتوسطة  بكل درجاتها  في صراع مع المهمشين و المضطهدين من أبناء الطبقات الأدني ....
 
و بعدها ..
(أى بعد 25 يناير ) سحب المليارديرات البساط .. بسلاسة عجيبة .. و بدأوا حقبة جديدة .. من الإنكسار ..لصالح البنوك الدائنة و من يحركها ... مستخدمين كل أساليب التطويع .. من  تجويع و طرد من العمل و تضييق أسباب الرزق و سجون و معتقلات  سيئة السمعة  لمن يخالفهم .. مستخدمين .. قوانين صيغت للردع و بث الخوف و الهلع بين المحكومين .
 
 كان هذا الحديث عن الشعب المبتلي منذ أن تم إحتلاله بواسطة قمبيز حتي تسلطت عليه في  بدايات  القرن الماضي  طبقة متوسطة فاشلة ،فاسدة، متحجرة غير قادرة علي الابتكار و الفهم والتحليل وإتخاذ الاجراءات الصحيحة ..تعالج تعثراتها   بنفي الأخر و كتم الأنفاس ..  و إلقاء الرعب في القلوب . 
 
 وعندما  فسدت رأس السمكة إنتشر العفن في الجسد. علي هيئة جهاز بيروقراطي محدود الكفاءة مسيطر عليه بواسطة أجهزة التوجيه والأمن تضنيه التطلعات و تلهيه السرقات والعمولات فأضاع الفرص وبدد الثروة وعطل الانتاج وسلم مصر للصوص ومغامرين من حثالة اوروبا وامريكا (في تكرار لزمن سعيد وإسماعيل وتوفيق ) ليفتكوا بالمصرى المنكسر دوما .
 
لقد فشلت الطبقة الوسطي في الحكم منذ أن أزاحت الملك وكبار ملاك الارض والمستثمرين الاجانب وقررت أن (طباخ السم بيدوقة) ، فأعجبه، فلهطه.. وها هي بعد إعياء ..  تسلمة بسلاسة  لحقبة جديدة يحكمه فيها أصحاب المليارات و الملايين القساة  بالتجويع و الإفقارو الخوف ..  مستسلمين لقوانين  إقتصادية   تسيرهم طبقا لمصالح و خطط مجهولة لنا .
 
ومع ذلك لم تفني مصر ..و ظلت باقية ..
ثلاثون حلقة .. تكلمنا فيها عن أمة عمرها المكتوب 55 قرن  ( 3340 ق.م – 2020 م).. فقدت منها  20 قرن محتلة و مستغلة .. فهل يزيد من عذابها قرن أخر ( 1919- 2020 ) مر لم تتوقف فيه  الخيبات و السقطات .. وهل سيغير من تاريخها الطويل مع الانكسار والهزيمة والفوضي ..أن في هذا القرن أيام معدودات (1956 -1967 ) كان القرار فيها يصدرة المصريون .
 
 القرن المفقود هذا الذى يعتبر لا شيء في تاريخ الوطن .. كان هو كل عمرى  عشته محكوما بقوانين الطواريء .. ( ولا صوت يعلو علي صوت الحكام )..و هو كل عمرك .. الذى ضاع و يضيع هباء منثورا ..  المشكله أن الوضع  لن يتغير .. حتي يعود المصرى لينتج وتؤمن رأس السمكة بمقاومة الفساد  و تحقيق   الديموقراطية.. الحرية.. و الشفافية ..  و النقاء  .. و هذه أحلام بعيدة عن التحقق 
 
رحلة طويلة عبر الألم ..أتعبتني و أتعبتكم ....أشكر صبركم علي حديثي فيها  و إلي لقاء أخر.