كمال زاخر
20 ـ حضور الرب، وسر الشركة
خذوا كلوا ... خذوا اشربوا منها كلكم !!
هذا "دمى"، هذا "جسدى"
عزيزى القارئ المثابر على متابعة هذا العرض لكتاب الأب متى المسكين "الإفخارستيا عشاء الرب"، أظنك تشاركنى فى التساؤلات التى تزداد إلحاحاً على ذهنى وأنا انقل عبر هذه السطور ما وقر عندى من معان مجتهداً ألا أخل بما كتبه وقصده الكاتب، قدر استيعابى، كانت تساؤلاتى: إذا كنا نملك كل هذا الزخم اللاهوتى والذى يفضى بنا إلى حياة جديدة ومفعمة بالقوة فى المسيح يسوع، فلماذا يغشانا كل هذا الضعف؟، ولماذا نقع فى دوامة صراعات ترتد بنا إلى انساننا العتيق؟، ولماذا نعيد انتاج الخبرات السلبية التى حذرنا منها رب المجد بامتداد الإنجيل؟. ولماذا نعبر فى وادينا قيعان تكاد تبتلعنا؟.
 
أزعم أننى وجدت فيما عنونه الكاتب "حضور الرب وسر الشركة"، مفتاح الإجابة، فهو يرى فى وليمة الرب، ليست فقط تأسيس لعهد جديد، بل أيضاً "دعوة سرية ـ من المسيح لتلاميذه ـ إلى شركة فيه واتحاد"، "فالأمر هنا واضح فى اعتبارات السيد، فالتلاميذ سيصبحون محتاجين أقصى الإحتياج، بعد ارتفاع الرب، إلى وحدة سرية تجمعهم إلى شركة، وما من سبيل إلى ذلك إلا بوجود الرب نفسه، أو على الأصح باستمرار وجوده، فإن كان يتحتم ارتفاعه كذلك يلزم حضوره".
 
ويفَصِّل الكاتب هذا الأمر بقوله [لقد حرص الرب بعد أن بارك الخبز مباشرة أن يمنحه ـ بقوة الكلمة ـ سلطان التحول إلى جسده، وهو على يده، قبل أن يسلمه لتلاميذه ليأكلوه، ثم قال "خذوا كلوا هذا هو جسدى" وبنفس الدقة وبنفس الترتيب حرص ـ بعد أن بارك الكأس مباشرة ـ أن يعطيه قوة الكلمة المحوِّلة، لكى يصير دماً له، وهو فى يده، قبل أن يعطيه لتلاميذه ليشربوه. وذلك عن قصد واضح، وهو أن يأكل التلاميذ الجسد ويشربوا الدم معاً فيصيروا فى اتحاد وشركة مع المسيح ومع بعضهم البعض".]
 
ويستطرد الكاتب موضحاً ومؤكداً ["إذاً، فـ"هذا جسدى كلوه"، و"هذا دمى اشربوا منه كلكم"، هما دعوة سرية إلى شركة فيه واتحاد. الجسد هنا حضور. إذاً "هذا جسدى" تعنى باللغة السرائرية "هذا حضورى" ـ أو بحسب اصطلاح الرب الذى كان محبوباً عنده "أنا هو Ego Eimi لا تخافوا"!! والدم أيضاً حضورٌ حىٌّ، و"هذا دمى اشربوا منه كلكم" يعنى باللغة السرائرية "هذا حضورى، وحياتى أيضاً".]
 
ويضع الكاتب يده على سر قوتنا ["حضور الرب هنا ومن داخل الأسرار، كمأكول ومشروب يُنشئ شركة، كينونيا ـ Kenonia، شركة أعضاء روحانية متحدة فى الرب، تستمد منه وجودها الكلى والفردى، الجسد هنا يتجلى من وضعه السرى غير المنظور على المذبح إلى أعضاء منظورة حية، تعمل، وتشهد لوجود المسيح، وتجاهد، بتدبير الرأس.]
 
ثم يضعنا الكاتب أمام مسئوليتنا فى استعلان وجود المسيح فينا [الإفخارستيا بهذا المعنى "حضور" و "عمل" للرب معاً، الرب يحضر أولاً فى الكنيسة بالإفخارستيا، ثم ثانياً بعد اكتمال الشركة يعمل فيها وبواسطتها، ككل، ومع كل فرد، بقدر ما تستجيب الكنيسة وبقدر ما يستجيب الفرد لحضوره.].
 
وفى ربط واع بين واقعة العشاء وكلام الرب عن الشركة يقرأ المثل الذى قاله الرب عقب العشاء، والذى لم يأت مصادفة، [فبعد أن تعشوا قال لهم : "قوموا ننطلق من ههنا"، وبينما هم منصرفون عن المائدة قال لهم : "أنا هو الكرمة الحقيقية وأبى الكرَّام. (الكرَّام = الله الآب) كل غصن فيَّ لا يأتى بثمر ينزعه وكل ما يأتى بثمر ينقيه ليأتى بثمر أكثر" (يو 1:15)، هذا ما قاله بعد أن أكلوا وشربوا من جسده ودمه السريين.]
 
وهنا لننتبه معاً، انا وأنتم أعزائى القراء، للنتيجة الصادمة
التى انتهى إليها الكاتب [المثل كله يشرح قانون الشركة الذى
يجمع الكل فى المسيح، فكل عضو لا يأتى بثمر لا يتركه الرب
عالة على الجسد، بأكله بلا ثمر، بمعنى أن الذى لا يُمجد ويشهد
للمسيح وفى نفس الوقت لا يعمل ويتعاون مع الأعضاء ينذره
الرب ثم يقطعه، فيصبح فجأة وإذا هو بل نعمة ولا قوة ولا بركة،
أما الذى يأتى بثمر فالرب لا يتركه، لأن عضو الشركة مطالب
دائماً بإثمار مستمر ومتزايد أيضاً. فإذا تكاسل أو أهمل أو استهان
بالشركة، وأضر بحياة الإخوة وأعثر الصغار أو استعلى أو تصامم
عن مطالب الكنيسة وواجباتها، يصبح وإذا يد الرب عليه ثقيلة،
ودون أن يدرى يجد نفسه واقعاً تحت التأديب.]
 
ويؤكد الكاتب ما انتهى إليه بدعم من رؤية القديس بولس الرسول الذى يوضح ذلك بلا مواربة [ليمتحن الإنسان نفسه وهكدا يأكل من الخبز ويشرب من الكأس، لأن الذى يأكل ويشرب بدون استحقاق (مستهيناً بقانون الشركة) يأكل ويشرب دينونة لنفسه غير مميز جسد الرب" (1كو28:11و29)]
 
ليس هذا فقط بل بحسب القديس بولس الرسول الإخلال بقانون الشركة وسرها هو جريمة توقِع صاحبها تلقائياً تحت العقاب "إذاً أيُّ من أكل هذا الخبز أو شرب كأس الرب بدون استحقاق، يكون مجرماً فى جسد الرب ودمه ... من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى وكثيرون يرقدون، لأنه لو كنا حكمنا على أنفسنا لما حُكم علينا...ولكن إذ قد حُكم علينا نُؤدب من الرب" (1كو11: 27ـ31).
 
لم تكن الكنيسة المُلهمة بعيدة عن استيعاب هذا الأمر، فبحسب تعبير الأب متى المسكين هنا، ترجمته فى نداء الشماس على مدى القداس "انصتوا بحكمة الله، انصتوا بخوف الله، قفوا بخوف الله، اسجدوا لله بخوف ورعدة."
 
ويتساءل الكاتب [لماذا هذا الخوف؟، ولماذا الرعدة فى الإفخارستيا إلا بسبب حضور الرب، ولماذا حضور الرب يكون مخيفاً هكذا؟ أليس لأن حضور الله هو بحد ذاته كشف خطايا ودينونة وفضح آراء القلوب الخفية؟ ألم نقل أن "يوم الرب" هو يوم القضاء!!.] وهى أيضاً تدبيره وعمله "نحن عمله" (أف 2 : 10)، وهو أيضاً رأسها المسئول عنها الذى يحركها، هى شركة المفديين من العالم الذين يقودهم المسيح ويهديهم إلى ملكوته.]
 
دعنا نستكمل معاً ما اختتم به الكاتب طرحه هنا :
هذه هى هبة الإفخارستيا العظمى التى وهبها المسيح للعالم، فهو جاء لا ليموت فقط لأجل حياة العالم، بل لينشئ من جسده ودمه ـ من الإفخارستيا ـ حياة جديدة للإنسان "شركة الإنسان الجديد"، أو بتعبير بولس الرسول "شركة القديسين" الذين يمثلون العالم الجديد، أى الكنيسة، والتى يملك عليها المسيح سراً، بحسب تعبير سفر الرؤيا والقداس فى مخاطبته للمسيح بقوله : "يا ملك القديسين". يملك عليهم ويقودهم إلى ملكوته.
أما العنصر الأساسى الذى أبقى على هذه الشركة الإلهية أى الكنيسة، ولا يزال مبقياً عليها ضد عوامل الزمن والإنحلال البشرى، فهو سر حضور الرب الدائم بالإفخارستيا "فإننا نحن الكثيرين خبزة واحدة، جسد واحد، لأننا جميعنا نشترك فى الخبزة الواحدة" (1 كو 10 : 17).
 
هل وجدت عزيزى القارئ إجابة على تلك الأسئلة المؤرقة؟
هل ادركت سر قوة الكنيسة، وأسباب ضعفها؟.