العثمانية الجديدة 
 
الأب الدكتور أثناسيوس حنين - دكتوراة فى التاريخ المصرى الحديث  - فرنسا 
حقا لقد صدق أمير الشعراء أحمد شوقى بك "1868 -1932 " وهو يرثى موت الأخلاق  وربما يندب حظه أنه قد ولد فى أيام ذهبت فيها الأخلاق فقال "أنما الأمم الأخلاق ’ أن ذهبت أخلاقهم ما بقيت ...فان هم ذهبت اخلاقهم ذهبوا "  أن تذهب أخلاق الأفراد فهذه سنة الحياة منذ ظهور الانسان على وجه البسيطة ’ أما أن تذهب أخلاق أمة بحالها ’ هنا العجب العجاب . فى الحقيقة أخلاق الشعوب الفطرية والتاريخية والمتدينة بطبعها البسيط والعفوى الانسانى لم تذهب عند الشعوب الصغيرة بل ذهبت عند الكبار أو من أستكبروا من رؤساء هذا العالم . الشعب التركى شعب طيب وذكى وهو ليس شرقيا ولا غربيا بل خليطا شرقيا بيزنطيا وأسيويا وأوروبيا ’ على الاقل بحسب جغرافيته .
 
غالبية سكانه مسيحيون روم الثقافة بيزنطيون الكبرياء ’تحولوا للاسلام طوعا أو قهرا ’ لا يهم ’ ولكنهم بقوا على ثقافة كبيرة وانسانية راقية وثقافة عظيمة معا فى مشروع حضارى ويشتهون أن يصيروا أوربيين لدرجة أن سكان المدن التركية المجاورة للجزر اليونانية يأتون ليقضوا بعض الوقت فى المطاعم والبلاجات  اليونانية ومن ثم يعودون أدراجهم فى تعايش وما أجمل  .
 
رأيت شئ من هذا هذا بأم عينى يوم وطأت قدمى مطار أتاتورك فى تركيا فى أول زيارة لهذا البلد لزيارة البطريرك المسكونى فى مقره لتقديم الشكر على تدخله لدى الحكومة اليونانية من أجل حصولى على الجنسية اليونانية . كنت أحمل فى عقلى احكام مسبقة كثيرة عن همجية هذا الشعب وبدويته وشراسته ’ سقطت الاحكام المسبقة بمجرد استقبال المطار لى وأنا فى لباسى الكهنوتى الرسمى وصليبى الذهبى على صدرى . المطار يسمى باسم أتاتورك والقنسطنطينية فى شخص بطركها وأثارها العتيقة تأبى أن تزول والأتراك عندما سموها استنبول لم يسموها فى الواقع تسمية جديدة ’ استانبول محرفة من عبارة يونانية تعنى :الى المدينة "أيس تين بولين"وبقيت هى المدينة كما كانت قبل الفتح ’ اليونانيون يسمونه سقوطا والاتراك يسمونه فتحا ’ يتكلم كل من زاويته .خطأ الرئيس  التركى لا يكمن فى رغبته أن يؤسس دولة معاصرة وديمقراطية وقوة كبيرة فى المنطقة ’ بل يكمن فى أنه شخصيا أو هناك من "زن على ودانه " بأنه الامبراطور العثمانى القادم وحامل لواء الاسلام السياسى والميليشاتى ومن هنا رهانه على مشروع "أخونة" مصر وتمزيق سوريا وتفتيت ليبيا و"التحرش" العسكرى باليونان  هذا البلد المسالم والديمقراطى .
 
والى جانب "التحرش" والكلمة أخذت ابعادا اجتماعية كبيرة عندنا نحن المصريون اليوم ’جاء دور التحرش بأسم الدين أو التحرش "الدينى" . يتفق معظم الاقصاديون والباحثون أن الليرة التركية تعانى كثيرا وأن الاقتصاد التركى فى انحدار .
 
من أين له المال للقيام بكل هذه المغامرات ؟ البركة فى البترودولار ! وفى شفاعات القديس دولاريوس ! لن نذكر مذابح سميرنا وتهجير سكانها وقد خدمت فى كنيسة يعود عمرها الى عام 1868 حيث حل فيها المهجرون قسرا من بيوتهم أو قبرص الارثوذكسية والتى استولى ’ بالعافية المسلحة ’ على ثلثها تقريبا وفرق سكانها باسم الدين . سنقف عند قضيتين أو ورقتين يلعب بهما الرئيس التركى حاليا وهما ورقة كاتدرائية الحكمة الالهية ومدرسة اللاهوت فى خالكى . لا  يوجد قديسة باسم صوفيا ’ بل ’ الحكمة منسوبة الى الله لأنها كانت فعلا أية فى الجمال الألهى والابداع الانسانى ’ كيف لا وقد أمر   ببنائها الملك الذى سميت المدينة باسمه"قنسطنطين"وأشرف على تشييدها  كبار المهندسين ورساموا الايقونات الذين صيروا حوائطها سماء ثانية . حينما جاء أتاتورك وأسس تركيا الحديثة قرر  تحويل الكنيسة الى متحف دولى يشهد للتعايش والسماحة !وهل بقائها كنيسة سوف يدمر السماحة ؟ 
 
ولم تمنع هذه السماحة من ان يزيدوا على الكنيسة المحراب واضيف اسم الله والنبى واسماء الخلفاء الراشدين وايات على نوافذ جديدة وكشف التنقيب الاثرى الفسيفساء التى تمثل السيد المسيح ووالدته .أنت نظريا فى متحف كما اراده اتاتورك ولكنك فى الواقع فى أبهى أثر فنى عرفته مسيحية الشرق ان لم اقل المسيحية قاطبة . كنيسة الحكمة المقدسة هى قبلة الارثوذكسيين بعد أورشليم محجة المسيحيين .وبالرغم من أن التاريخ لا يعطى صك برأة للمسيحيين البيزنطيين ويعفيهم من مسؤلية سقوط المدينة بسبب من خطاياهم ’ الا أن هذا لا يعطى الحق فى العبث بحاضرها ومستقبلها بعد أن تمت وتتم محاولات مستميتة لمحو ماضيها .الرئيس التركى ومن هم على شاكلته لا يعرفون أن السياسة هى تفعيل الابداع العلمى والروحى والثقافى فى نسيج التاريخ .كنيسة الحكمة المقدسة هى خط أحمر كما قال الرئيس السيسى عن حدودنا مع ليبيا والتى يعبث بها الرئيس التركى . وليت الرئيس المصرى ’والذى أبهج قلوب المسيحيين فى مصر بالدخول الى كنائسهم ’أن يقول للاتراك الاخوانجية ’ كما قال لازلامهم   فى مصر ’ أن كنيسة الحكمة خط احمر !
 
خاصة وبعد تعمق العلاقات بين مصر واليونان أخيرا بسبب عربدة اردوغان فى المياه الاقليمية وفى ليبيا .وسيحسب هذا  له ’أى للرئيس المصرى ’  التاريخ الذى يحبه ويقرأئه . لا يفهم أحد موقف الغرب من تركيا وصبيانيات الرئيس التركى ’ مرة يهددوه ومرات يدلولوه " يدلعوه"ويعطوا له الضوء الاحمر والاخضر والاصفر ليعيث فسادا وقد قال لى صديقوشاهذ عيان ان الميلشيات بايعاز من الحكومة التركية تستولى  على القمح السورى لتجويع السوريين .ويأتى زعماء العالم المسمى مسيحيا ليؤيدوه وهم يحملون على هاماتهم الاناجيل كما رفع اسلافهم الصليب .اذا لماذا يلومون الرئيس التركى اذا رفع القرأن !
 
كانت القنسطنطينية منارة المدن فى الشرق كله وقد حباها الله بالطبيعة الخلابة والموقع الجغرافى الفريد بين قارات العالم يومها’أسيا وأوروبا ’ ومبانيها التى تنطق تاريخا وشواطئها الغنائة وخيرها العميم . كيف لا وهى مدينة الملك قنسطنطين والذى اراد ان يضارع بها روما فى الغرب حتى صارت روما الجديدة بقرار مجمع خلقيدونية 451 م مما خلق حساسيات بين المدينتين ربما ما تزال أثارها تأخذ أشكالا كبيرة على المستوى اللاهوتى بعد أن كانت سياسية واقتصادية . المدرسة (خالكى
 
والتى يعنى اسمها بالعرببية "اللون الاحمر الارجوانى " الذى يرتديه الملوك والعظماء " والتى تخرج منها الكثير من البطاركة والاساقفة واللاهوتيون العظام فى الشرق لا تقوم بذاتها بل يحتضنها دير الثالوث القدوس بضاحية خالكى وقد تم تأسيسه فى أيام الامبراطورية العثمانية . كانت العادة قديما أن يتم تأسيس مدارس اللاهوت فى الأديرة مثل مدارس الرهبان فى مصر ’ هذا حدث فى تركيا ’ فقد قام البطريرك فوتيوس الاول المسكونى بتاسيس المدرسة فى بتأسيس الدير ومن بعده البطريرك   جرمانوس الذى جلس على عرش المدينة العظمى عام 1844 أسس المدرسة فى داخل ابنية دير الثالوث . دمر الزلزال الكبير الذى حدث فى تركيا 27 يونيو 1894 الدير والمدرسة مما أدى الى توقف الدراسة تم اصلاح اثار الزلزال واعادة افتتاح المدرسة فى 1896 كما تم عمل تجديدات أخرى فى الخمسينات من القرن الماضى .
 
الى أن قامت الحكومة التركية عام 1971 باغلاق المدرسة بعد صدور قرار باغلاق الجامعات الخاصة ’ الى تم حل مجلسها نهائيا فى عام 1998 وهنا قام العالم محتجا .واصدر الكونجرس الامريكى بيانا ينادى باعادة فتحها .حينما زار الرئيس الامريكى كلينتون تركيا عام 1999 طلب من الرئيس التركى   سليمان ديميريل اعادة فتح المدرسة .وفى عام 2011 وبفضل الضغوط الدولية والرغبة فى تحسن صورة تركيا أمام العالم ’ أصدر أردوغان ’ رئيس الوزراء وقتها ’ مرسوما باعادة كافة الاوقاف والممتلكات التى تمت مصادرتها الى البطريركية المسكونية بما  فيها دير الثالوث والمدرسة اللاتية ’ ووقف وهو رئيس وزراء ضد تحويلها الى جامع  وكما تم تعيين المطران البيذوفوروس "رئيس اساقفة امريكا للروم حاليا " أبا روحيا للدير ومديرا للمدرسة وهو الأن يمارس من موقعه الجديد ضغوطا لاعادة فتح المدرسة . وتحاول اليونان وضع المدرسة على قائمة القضايا العالقة بين البلدين كما يستخدم الرئيس التركى هذه الورقة وورقة الأجيا صوفيا أخيرا لمكاسب شعبوية داخلية وللاستهلاك المحلى بعد أن بدأ ينسحب من تحت أقدامه الدعم الدولى والاوروبى والاقليمى بل والعربى الاسلامى . اللافت للانتباه هو الزيارة التى قام بها رئيس الوزراء اليونانى السابق اليكسي تسيبراس الى تركيا وقام بزيارة المدرسة وحضر الزيارة قامات روحية واجتماعية وممثل الحكومة التركية والرئاسة وهنا وقف البطريرك المسكونى ودوى صوته كصوت صارخ فى برية الصمت التركى والكونى وقال " أنه لمن الظلم والاجحاف ان يتم غلق صروح مسيحية كبيرة ولاهوتية تم تأسيسها فى أيام الامبراطورية العثمانية ’  فى أيام   الديمقراطية التركية !.