فاروق عطية
اتجه محمد علي باشا منذ توليه حكم مصر إلى بناء دولة عصرية في مصر على النسق الأوروبي. كان الجيش هو الدعامة الاولى التي فكّر أن يبنى عليها كيان مصر الحديثة المستقلة، ولولا حاجته لجيش قوي مدرب علي أحدث تكنولوجيا عصره لما تكونت الدولة المصرية ولا تحقق استقلالها. الجيش هو الذي حقق هذا الاستقلال وصانه أكثر من ستين عاما، لذا خصه محمد علي باشا بعظيم عنايته، ويكفي دليلا على مبلغ تلك العناية ان منشآته الاخرى كانت لخدمة هذا الجيش واستكمال احتياجاته، فهو الاصل وهي التبع. فِكرة انشاء مدرسة الطب مثلا كان لتخريج أطباء يحتاجهم الجيش، وكذلك مصانع الأسلحة والزخيرة والغزل والنسيج كان الغرض منها توفير حاجات الجيش والجنود من السلاح والذخيرة والكساء، واقتضى اعداد الاماكن اللازمة لاقامة الجنود بناء الثكنات والمعسكرات والمستشفيات، واستلزم تخريج الضباط انشاء المدارس الحربية على اختلاف انواعها، وكذلك المدارس الملكية كان الغرض منها تثقيف التلاميذ لاعدادهم على ان يكونوا ضباطا ومهندسين، وارسال البعثات الى أوروبا كان الغرض منه توفير العدد الكافي من الضباط ومن الاساتذة والعلماء والمهندسين ممن يتصلون عن بعد او قرب بالاداة الحربية، صحيح ان هذه المنشات وغيرها كان لها اغراض عمرانية اخرى، لكن خدمة الجيش كانت اول ما فكر فيه محمد علي باشا.
 
   استعان في تنفيذ كل ما فكّر فيه بخبراء أوروبيين خاصة الفرنسيين الذين أمضوا في مصر بضع سنوات في ثلاثينات القرن التاسع عشر، وكانوا يدعون إلى إقامة مجتمع نموذجي على أساس الصناعة التي تعتمد على العلم الحديث. وأهم دعائم دولته العصرية كانت تعتمد علي التعليم والثقافة الحديثه، لأنه كان يؤمن بعدم القدرة على إنشاء قوة عسكرية على الطراز الأوروبي المتقدم ويزودها بكل التقنيات العصرية وأن يقيم إدارة فعالة واقتصاد مزدهر يدعمها ويحميها، إلا بإيجاد تعليم عصري يحل محل التعليم التقليدي القديم.
 
   أولى محاولات محمد علي باشا لتأسيس جيش نظامي كانت عام 1815م، عندما عاد من حرب الوهابيين حيث قرر تدريب عدد من جنود الأرناؤوط الألبان التابعين لفرقة ابنه إسماعيل على النظم العسكرية الحديثة في مكان خصصه لذلك في بولاق. لم يرق لهؤلاء الجنود ذلك، بسبب طبيعتهم التي تميل إلى الشغب والفوضى، فثاروا عليه وهاجموا قصره ودار بينهم وبين الحرس قتال، استطاع خلاله حرس محمد علي باشا السيطرة على الموقف، إلا أنه أيقن بعدم إمكانية الاعتماد على مثل هؤلاء الجند، فأرجأ تنفيذ الفكرة.
 
   لجأ محمد علي باشا مجددًا إلى الحيلة، ففي عام 1820م أنشأ مدرسة حربية في أسوان، وألحق بها ألفًا من مماليكه ومماليك كبار أعوانه، ليتم تدريبهم على النُظُم العسكرية الحديثة على يد ضابط فرنسي يدعى جوزيف سيڤ جاء إلى مصر وعرض خدماته على محمد علي باشا. وبعد ثلاث سنوات من التدريب، نجحت التجربة وتخرجت تلك المجموعة ليكون هؤلاء الضباط النواة التي بدأ بها الجيش النظامي المصري.
 
   بالتجربة ثبت لمحمد علي باشا أن الجنود الأتراك والأكراد والألبان والشراكسة لم يعودوا يصلحون ليكونوا عماد جيشه لعدم تقبلهم للاندراج في جيش نظامي، لذا تحجج بحاجته إليهم في تأمين الثغور، وأرسلهم إلى دمياط ورشيد ليخلي القاهرة منهم، وحتى يطمئنهم أرسل معهم بعض أبنائه كقادة لهم، ثم أرسل إلى إبنه إسماعيل ليمده بعشرين ألفًا من السودانيين ليتم تدريبهم على الجندية في معسكرات أعدها لهم في بني عدي على أيدي الضباط الجدد. إلا أن التجربة فشلت لتفشي الأمراض بين الجنود السودانيين لاختلاف المناخ، لذا لم يكن أمامه إلا الاعتماد على المصريين. قاوم الفلاحون المصريون في البداية تجنيدهم، لأنهم لم يروا مصلحة لهم فيه، واعتبروه عملاً من أعمال السخرة. ولكن وبمرور الوقت تجاوب الفلاحون مع الوضع الجديد، استشعروا تحت راية الجيش بالكرامة وبحياة مأمونة الملبس والمسكن لا يعانون فيها معاناتهم في الزراعة. وبحلول شهر يونيو من عام 1824م، أصبح لدى محمد علي باشا ست كتائب من الجند النظاميين المصريين، يتجاوز عددهم 25 ألف جندي، فأمر بانتقالهم إلى القاهرة.
 
   بذلك أصبح لمصر جيش نظامي بدأ يتزايد باطّراد حتى بلغ 169 ألف ضابط وجندي في إحصاء تم عام 1833م وإلى 236 ألف في إحصاء تم عام 1839م، كما أنشأ محمد علي باشا ديوانًا عرف بديوان الجهادية لتنظيم شؤون الجيش وتأمين احتياجاته من الذخائر والمؤن والأدوية وتنظيم الرواتب. كانت أول مشاركات هذا الجيش في حرب المورة التي أظهرت ما وصلت إليه العسكرية المصرية من بأس وهو ما جعل لها شأنًا بين القوى العسكرية المعاصرة، وقد اعتمد عليها إبراهيم باشا في حملته على الشام والأناضول.
 
   عندما شرع محمد علي باشا في حرب الوهّابيين، اقتضت الحاجة إلى بناء سفن لنقل الجنود عبر البحر الأحمر، فشرع في إنشائها في ترسانة بولاق، ثم نقل القطع على ظهور الجمال إلى السويس ليتم تجميعها هناك، وقد اقتصر دور هذا الأسطول في البداية على نقل الإمدادات والتموين طوال سنوات الحملة. وبعد أن أسس الجيش النظامي المصري، وجد أنه من الضروري تأسيس أسطول حربي قوي يعاونه على بسط نفوذه. اعتمد محمد علي باشا في البداية على شراء السفن من أوروبا، كما تعاقد على بناء سفن أخرى في موانئ أوروبا. ولكن بعد تدمير هذا الأسطول في معركة ناڤارين أمام أساطيل إنجلترا وفرنسا وروسيا الأكثر تطوّرًا، لم ييأس وأمر في عام 1829م ببناء ترسانة الإسكندرية، التي أوكل إدارتها الى مهندس فرنسي إسمه سريزي. قامت الترسانة بمهمة إعادة بناء الأسطول على الأنماط الأوروبية الحديثة، وقد بلغ عدد السفن الحربية التي صُنعت في تلك الترسانة حتى عام 1837م، 28 سفينة حربية من بينها 10 سفن كبيرة كل منها مسلح بمائة مدفع، فاستغنت مصر عن شراء السفن من الخارج. ومن شدة اهتمام محمد على باشا بهذه الترسانة كان يزورها باستمرار، وكان يستحث العمال على العمل، ويحضر حفلات تدشين السفن الجديدة.
 
   توسّع محمد علي باشا في التعليم العسكري في مصر، فبعد أن أمر ببناء مدرسة الضباط في أسوان ومدرسة الجند في بني عدي، أمر بتأسيس مدارس أخرى في فرشوط والنخيلة وجرجا. كما أسس مدرسة إعدادية حربية بقصر العيني لتجهيز التلاميذ لدخول المدارس الحربية، يدرُس بها نحو 500 تلميذ، لكنها نًقلت بعد ذلك إلى أبي زعبل حيث أصبحت تسع نحو 1200 تلميذ. أضاف بعد ذلك، مدرسة للبيادة في الخانقاه، والتي نقلت إلى دمياط عام 1834م، ثم إلى أبي زعبل عام 1841م، كما أسس مدرسة لأركان الحرب في 16 اكتوبر 1825م بالقرب من الخانقاه، ومدرسة للموسيقى العسكرية. وفي عام 1831م أنشأ مدرسة السواري بالجيزة، وأخرى للمدفعية في طره عام 1831م أيضا. وأنشأ أيضًا معسكر لتدريب جنود الأسطول على الأعمال البحرية في رأس التين. ولإعداد الضباط البحريين، أسس محمد علي مدرسة بحرية عملية على ظهر إحدى السفن الحربية، ولما اتسع نطاقها قُسمت إلى فرقتين كل واحدة منها على سفينة.
 
   رأى محمد علي باشا أنه لكي يضمن الاستقلالية وحتى لا يصبح تحت رحمة الدول الأجنبية، عليه إنشاء مصانع للأسلحة في مصر، فكان مصنع الأسلحة والمدافع في القلعة باكورة هذا التفكير الذي تأُسس عام 1827م، وكان ينتج بين 600 و650 بندقية، وبين  3 و4 مدافع في الشهر الواحد. كما كان ينتج سيوف الفرسان ورماحهم وحمائل السيوف واللجم والسروج. وفي عام 1831م أسس مصنع آخر للبنادق في الحوض المرصود، كان ينتج 900 بندقية في الشهر الواحد، ثم مصنع ثالث في ضواحي القاهرة، وكانت المصانع الثلاثة تصنع في السنة 36,000 بندقية عدا الطبنجات والسيوف. كما أسس معملاً للكهرجالات (البارود) في جزيرة الروضة بعيدًا عن العمران، وأضاف إليه معامل أخرى في الأشمونين وإهناسيا والبدرشين والفيوم والطرانة بلغ مجموع إنتاجها عام 1833م نحو 15000 قنطار من البارود.
 
   أدرك محمد علي باشا أنه لكي تنهض دولته، يجب عليه أن يؤسس منظومة تعليمية، تكون العماد الذي يعتمد عليه لتوفير الكفاءات البشرية التي تدير هيئات دولته الحديثة وجيشها القوي. لذا فقد بدأ محمد علي بإرسال طائفة من الطلبة الأزهريين إلى أوروبا للدراسة في مجالات عدة، ليكونوا النواة لبدأ تلك النهضة العلمية. كما أسس المدارس الابتدائية والعليا، لإعداد أجيال متعاقبة من المتعلمين الذين تعتمد عليهم دولته الحديثة.