محمد حسين يونس
إختلف الباحثون في التعريف( بمحمد علي ) فحين رفعه البعض الي مستوى باني مصر الحديثة إعتبرة أخرون طاغية شرقي مستبد كأى حاكم ابتليت به البلاد خلال القرون الستة السابقة (حكم المماليك و العثمانيون ) .

فمن المعروف أن السيد عمر مكرم فضلا عن عبد الرحمن الجبرتي إنتقداه بشدة وكان رد فعل الوالي الجديد أن عزل عمر مكرم من نقابة الاشراف ونفاه من القاهرة مبعدا إياه عن الحياة العامة بينما قتل إبن أخ الثاني و كان يعتمد علية بعد أن بلغ السبعين فتوقف بحسرته عن الكتابة حتي توفي .

الشيخ محمد عبده كتب ((ما الذى فعله محمد علي ؟ لم يستطع أن يحي ولكن كان بإستطاعته أن يميت ، كان معظم الجيش معه و كان صاحب حيلة بالفطرة فأخذ يستعين بالجيش و من إستماله من الاحزاب لاعدام خصومة ،ثم يعود بقوة الجيش وحزب أخر علي من كان معه و أعانه فيمحقه وهكذا حتي إذا ما سحقت الاحزاب القوية وجه عنايته الي رؤوس البيوت الرفيعة فلم يدع فيها رأس يستتر فيه ضمير (انا ) وإتخذ من الامن وسيلة لجمع السلاح من الاهلية وتكرر ذلك منه مرارا حتي فسد بأس الاهالي وزالت ملكة الشجاعة منهم وأجهزعلي ما بقي من البلاد ،من حياة في أنفس بعض أفرادها فلم يبق في البلاد راسا يعرف نفسه حتي خلعه من بدنه او نفاه الي السودان فهلك هناك )).. هذا حديث عن بدايات القرن التاسع عشر و ليس عن بدايات الحادى و العشرين

(( أخذ يرفع الاسافل ويعليهم في البلاد والقرى حتي إنحط الكرام وساد اللئام ولم يبق في البلاد إلا آلات له يستعملها في جباية الاموال وجمع العسكر بأى طريقة فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأى وعزيمة و إستقلال نفس ليعيد البلاد جميعها إقطاعا واحدا له ولاولاده )).

نفس الحديث أو أخر يقترب منه
في كتاب ((كل رجال الباشا.. محمد علي وجيشه وبناء مصر الحديثة)) لمؤلفه خالد فهمي ، رئيس قسم التاريخ بالجامعة الاميركية في القاهرة ... و ترجمة شريف يونس
فهو ينقض الكثير من المسلمات الراسخة في الثقافة العامة المصرية حول دور محمد علي باشا في بناء مصر الحديثة، ويحاول المؤلف عبر صفحات الكتاب التأكيد على البعد العثماني لشخصية محمد علي ،وكيف أثر ذلك في مشروعه وتجربته في مصر . ويرى خالد فهمي ان وضع تجربة محمد علي في الاطار العثماني يسمح بتفسيرها وفهمها بشكل أفضل، فهو في النهاية وال عثماني مرتبط باسطنبول وبكل ما يجري فيها ، ويتاثر باي صراعات دارت هناك...و ينفذ تعليماتها و فرماناتها .

و ان انجازات محمد علي وانتصاراته ما كان لها أن تكون لولا جهد المصريين أنفسهم...ليبق السؤال

((من دفع ثمن نهضة مصر التي تحققت في القرن التاسع عشر ، التي شملت قطاعات كثيرة وكبيرة ، و هل كانت هذه النهضة تستحق التضحيات والأثمان التي دفعها الشعب المصري)) .

يقول المؤلف في مقدمة كتابه (( مهمتي الأساسية أن الفت النظر إلى أهمية الفرد العادي الذي لا ينتمي إلى الصفوة في صنع التاريخ، وهي مهمة صعبة لا مراء، وصعوبتها تكمن إلى حد ما في عدم قدرتنا نحن على التخلي عن اعتقاد رسخناه في أذهانا مفاده أننا لا نصنع تاريخنا بأيدينا ، وأن علينا أن ننتظر من سيهبط علينا من السماء لينتشلنا من وهدتنا التي لا نستطيع إزاءها شيئا.))

ويضيف فهمي أن ((كتابة تاريخ مصر أثناء حكم محمد علي بشكل نقدي يجب ألا يغفل دور بسطاء المصريين .....ويتابع ..كما أننا نمتلك من الوثائق ما يمكننا من أن نضع أيدينا على إسهامات بسطاء المصريين وتضحياتهم في النصف الاول من القرن التاسع عشر ))...

كتاب هام ينظر للتاريخ من خلال سلوكيات و مستوى معيشة الشعب لا أحاديث القادة و دعاية أبواقهم ..و يذكرنا بأغنية سيد درويش التي تغنيها ترحيلة تعمل في سخرة ذلك الزمن...((بلــدي يابلــدي . وأنـا نفســي أروح بلــدي...أيــام وبتـجري بيــنا ولا يـوم أبــدا نسينــا ..دم الأبطــال فــى سينــا أرض الفــيروز...))

الطرف الاخر يقول ((اتجه محمد علي إلى بناء دولة عصرية على النسق الاوروبي في مصر ، واستعان في مشروعاته الاقتصادية والعلمية بخبراء أوروبيين يدعون إلى إقامة مجتمع نموذجي على أساس الصناعة المعتمدة على العلم الحديث.))

وهكذا جاءت دولته معاصرة في سياستها التعليمية والتثقيفية، (بإيجاد تعليم عصري يحل محل التعليم التقليدي الديني ) و بإقامة إدارة فعالة واقتصاد مزدهر يدعمها ويحميها،وكان يؤمن بأنه لن يستطيع أن ينشئ قوة عسكرية على الطراز الأوروبي المتقدم ويزودها بكل التقنيات العصرية دون متعلمين وإقتصاد قوى .

((عندما بدأ في تأسيس قوة عسكرية نظامية حديثة بدأ بإعادة الضبط والربط لجنود الجيش المؤلفً من فرق غير نظامية تميل بطبيعتها إلى الشغب والفوضى، معظمها من الاكراد والالبان و الجراكسة ، إضافة إلى جماعات من الاعراب الذين كان الولاة يلجأون إليهم كمرتزقة ، وبذل جهده في إنشاء جيش يضارع به الجيوش الأجنبية في قتالها ولكنه فشل فقرر أن يستبدل جنوده غير النظامية بجيش على النظام العسكري الحديث))

بمعني أن رغبتة في تكوين جيش حديث .. قادته إلي أن يغير الكثير من أنماط السلوك و الحياة.. فيستعين بالمصريين ويجنب التعليم الأزهرى و يلجأ إلي العلم بصفته الوسيلة الوحيدة .. لبناء السفن .. و المدفعية .. و المحافظة علي الجنود .. و ضمان تدريبهم ...

الجيش لكي ينمو يحتاج لمصاريف ..إنفاق .. و هذا لن يتأتي إلا بزراعة القطن الذى سمي في ذلك الزمن بالذهب الأبيض وتصديره لأوروبا .. الزراعة تحتاج لوسائل رى و صرف مناسبة .. و هكذا كان الدافع لتكوين جيش قوى هو القاطرة التي خرجت بسفينة مصر من المستنقع العثماني .

بعد محاولات متعددة لتكوين هذا الجيش من الارناؤط و الارمن و الجركس لم تؤتي ثمارها إستعان بالسودانيين ففشل

((لذا لم يكن أمامه إلا الاعتماد على المصريين. قاوم الفلاحون في البداية تجنيدهم، لأنهم لم يروا مصلحة لهم فيه، واعتبروه عملاً من أعمال السخرة. ولكن بمرور الوقت تجاوب الفلاحون مع الوضع الجديد، استشعروا تحت راية الجيش بالكرامة وبحياة مأمونة الملبس والمسكن لا يعانون فيها معاناتهم في الزراعة. وبحلول شهر يونيو من عام 1824، أصبح لدى محمد علي ست كتائب من الجند النظاميين، يتجاوز عددهم 25 ألف جندي)) .
..
((بذلك أصبح لمصر جيش نظامي بدأ يتزايد باطّراد حتى بلغ 169 ألف ضابط وجندي في إحصاء تم عام 1833، وإلى 236 ألف في إحصاء تم عام 1839كما أنشأ محمد علي ديوانًا عرف بديوان الجهادية لتنظيم شئون الجيش وتأمين احتياجاته من الذخائر والمؤن والأدوية، وتنظيم الرواتب

وكانت أول مشاركات هذا الجيش في حرب المورة، التي أظهرت ما وصلت إليه العسكرية المصرية من تقدم وهو ما جعل لها شأنًا بين القوى العسكرية المعاصرة، بعد أن اعتمد عليه إبراهيم باشا في حملته على الشام والأناضول)).

جيش مصر الذى تكون من مصريين لاول مرة منذ 23 قرن أرسل محمد علي من أجله البعثات العلمية لاوروبا

((في عام 1813 ابتعث محمد علي أول البعثات التعليمية إلى أوروبا، وكانت وجهتها إلى إيطاليا ، حيث أوفد عدد من الطلبة إلى ليفورنو وميلانو وفلورنسا وروما لدراسة العلوم العسكرية وطرق بناء السفن والهندسة والطباعة ، ثم أتبعها ببعثات لانجلترا و فرنسا كانت البعثات الأولى صغيرة، حيث كان جملة من بعث به خلالها لا يتعدى 28 طالبًا، ورغم ذلك فقد لمع منهم عثمان نور الدين الذي أصبح أميرالاي الأسطول المصري ونقولا مسابكي الذي أسس مطبعة بولاق بأمر من محمد علي عام 1821))

((إلا أن العصر الذهبي لتلك البعثات، كان مع بعثة عام 1826 التي تكونت من 44 طالبًا لدراسة العلوم العسكرية والإدارية والطب والزراعة والتاريخ الطبيعي والمعادن والكيمياء والهيدروليكا وصب المعادن وصناعة الأسلحة والطباعة والعمارة والترجمة))

((تبع تلك الحملة حملة أخرى عام 1828 إلى فرنسا، وثالثة عام 1829 إلى فرنسا وإنجلتراوالنمسا، ورابعة تخصصت في العلوم الطبية فقط عام 1832. وشهد عام 1844، أكبر تلك البعثات العلمية والتي أرسلت إلى فرنسا، وعرفت باسم "بعثة الأنجال" لأنها ضمت 83 طالبًا بينهم اثنين من أبناء محمد علي واثنين من أحفاده. ...وكان إجمالي عدد تلك البعثات تسع بعثات، ضمت 319 طالبًا)).

((أنشأ محمد علي العديد من الكليات وكانت يطلق عليها آنذاك "المدارس العليا"، بدأها عام 1816، بمدرسة للهندسة بالقلعة لتخريج مهندسين يتعهدون بأعمال العمران. وفي عام 1827، أنشأ مدرسة الطب في أبي زعبل بنصيحة من كلوت بك للوفاء باحتياجات الجيش من الاطباء ، ومع الوقت خدم هؤلاء الأطباء عامة الشعب، ثم ألحق بها مدرسة للصيدلة، وأخرى للقابلات (الولادة) عام 1829. ثم أنشأت مدرسة المهندسخانة في بولاق للهندسة العسكرية، ومدرسة المعادن في مصر القديمة عام 1834، ومدرسة الألسن في الأزبكية عام 1836، ومدرسة الزراعة بنبروة ومدرسة المحاسبة في السيدة زينب ، ومدرسة الطب البيطري في رشيد ومدرسة الفنون والصنائع وقد بلغ مجموع طلاب المدارس العليا نحو 4,500 طالب)) .

و هكذا كان يفكر الباشا .. بناء الإنسان المتعلم جنبا إلي جنب مع بناء المصنع .. و ليس إستيراد السلاح و السفن من الخارج ..و تحسين طرق الرى وأساليب الزراعة بحيث ينتج قطنا متميزا في السوق العالمي ..مستخدما أموال بيع قطن مصر لصالح تنمية جيش مصر .

اليوم عندما نقيم ما حدث مع مدخل قرن الانعتاق من النير البدوى المملوكي العثماني نجد أن ما عرضناه من مقولات الطرفين المختلفين (في محمد علي ) صحيحة

فهو قد بدا بداية مملوكية كديكتاتور شرقي بغيض .. ثم تحول تدريجيا الي حاكم عصرى له مجلس شورى قوانين1829 وجيش حديث ..

او فلنقول أنه بعد أن صد حملة فريزر البريطانية في رشيد وخوض الحرب الوهابية في شبه الجزيرة العربية وضم السودان بجيوش شبه بدائية ..

جاءت حرب المورة و حملات الشام معبرة عن بصمات تطور الجيش الذى أنجب بعد ذلك .. إبراهيم باشا وسامي البارودى و أحمد عرابي.

ويبق السؤال كيف إستطاع محمد علي تدبير تكاليف هذه النهضة و هذه الجيوش التي فاقت جيوش الخليفة تنظيما و فاعلية.. هل بالقروض و الديون ..أم عن طريق رأسمالية الدولة الصارمة و رفع كفاءة الإنتاج

كتب عبد الرحمن الرافعي في ((عصر محمد علي.)) إصدار دار المعارف
((على انه من الواجب ان نقرر اثباتا للحقيقة من جميع نواحيها ان الشعب لم يتحرر من الشقاء في عصر محمدعلي، فقد وقع عليه ارهاق ومظالم كثيرة، ويحق لنا من هذه الناحية ان نقول ان اعمال الاصلاح التي تمت في عصر محمد علي لم ينتفع بها الجيل الذي عاش في ذلك العصر بل انتفعت منها الاجيال التي توالت من بعده، اما جيل محمد علي فقد فدحته اعمال السخرة والارخاق ، ولم يتذوق طعم الحرية الشخصية، ولا حق الملكية، فلعلك تذكر ان محمد علي قد تملك كل اراضي مصر، ووضع نظام احتكار الحاصلات الزراعية وبيعها، كما احتكر التجارة والصناعة، وقد اساء هذا النظام الى الشعب اساءة كبرى لانه ضرب عليه حجابا من الفقر والجمود، وصارت الحكومة هي المالكة لكل اطيان القطر وحاصلاته وتجارته وصناعته، وهذه الالة هي موضع ضعف في سياسة محمد علي الاقتصادية والاجتماعية))

في نفس الوقت
((اذ تكلمنا عن المظالم التي ارهقت الشعب في عهده فمن الحق ان نقول انها اخف وطاة من المظالم التي كانت تقع في عصر المماليك.... حدثني صديق لي عن جده الذي ادرك عصر محمد علي انه كان يقول اننا كنا نحتمل مظالم حكمه لانها بمقارنتها بمظالم المماليك كانت اخف منها وارحم))..

((فلو لم يتول محمد علي حكم البلاد لبقيت رازحة تحت حكم التقهقر والفوضى، كما بقيت سائر ولايات السلطنة العثمانية كالعراق وسورية وفلسطين، او لاحتلتها دولة من دول الاستعمار كما احتلت فرنسا الجزائر.)).

.. لقد دفع شعب مصر ثمن (إنجازات) محمد علي .. سخرة و عمل في حقول القطن و شق الترع و المصارف و بناء القناطر ..وحصل علي أقل عائد ....وإستنزاف للدم وللطاقة و الجهد فداء لوطن (لم يحنو علية )..

.ومع ذلك ولذلك ..إنتهي زمن حكم أسرته .. بمصر مستعمرة بريطانية سلمها لهم أبناؤه و احفاده بإحتفاء....و لهذا قصة أخرى نتابعها باكر ...
#دفتر_إنكسار_أهلك_يامصر