في مثل هذا اليوم 26 يونيو1879م..
أدت سياسة الخديوى اسماعيل المالية الى تحالف الدول الأوروبية مع السلطان العثماني على ضرورة عزله عن حكم مصر ، و أصدر السلطان فرمانه في 26 يونيو 1879 بعزل إسماعيل عن الحكم ، و تنصيب ابنه الأكبر محمد توفيق باشا على مصر ..

خلع إسماعيل: 26 يونيو 1879
وكأن انجلترا وفرنسا قد شعرتا بشىء من الخجل الاستعماري لرؤيتهما ألمانيا وهي أقل منهما مصالح ومطامع في مصر ، تسبقهما إلي وجوب التدخل، فاعتزمتا ألا تقتصرا على فكرة الحكومة الألمانية في طلب نقد المرسوم الذي أصدره الخديوي، بل عملتا على خلعه من العرش.

وقد وجدنا الطريق أمامهما معبداً في الأستانة ، فأن الحكومة العثمانية لم تكن تعطف على إسماعيل أو ترضى منه نزعته الاستقلالية ، وزين لها قصر النظر أن الألتجاء إليها لعزل الخديوي يكسبها نفوذاً كبيراً لم يكن لها منذ وطد محمد على دعائم الدولة المصرية ، فليس يكفي أن الباب العالي لم يسبق أن عزل والياً من الأسرة المحمدية العلوية ، والفرمان الذي أصدره سنة 1840 بعزل محمد على قد بقي عديم الأثر ، ولم يحفل به محمد على ، فخلع إسماعيل هو الحادث الوحيد الذي ظهرت فيه سلطة الباب العالي في عزل الخديويين ، وهي سلطة تستهوي حكومة الأستانة التي لم تكن تنظر في العواقب ، وقد فات هذه الحكومة الحمقاء أن إقصاء إسماعيل عن الحكم وخلعه بإرادة الدول ، هو تمكين لهذه الدول من التدخل في شؤون مصر تحقيقاً لمطامعها الاستعمارية ، إذ لا يوجد تدخل أقوي من إسقاط صاحب العرش عن عرشه ، وهكذا كانت سياسة تركيا نحو مصر قائمة على سوء النية وقصر النظر.

فتركيا لم تخدم سياستها ، ولا خدمت مصر بإجابتها مطالب الدول ، وليس يخفى أن فرنسا لم تكن في إشتراكها وإنجلترا بعيدة النظر أيضاً لأنها لم تخدم المصالح الفرنسية، بل مهدت الطريق لأنفراد إنجلترا بالتدخل في شؤون مصر واحتلالها على عهد الخديوي توفيق باشا.

سعت إذاً كل من إنجلترا وفرنسا سعيها في الأستانة للتخلص من إسماعيل ، فلما وجدت الدولتان أن الباب العالي مستعد لخلعه أتفقتا أولاً على أن تطلبا منه التنازل عن العرش من تلقاء نفسه اتبعأ لمشورتهما، لتجعلا لنفسهما سلطاناً أقوى في مصير مصر ، إذ يكون التنازل قد تم بإرادتهما وتدخلهما، فأرسلتا إلى قنصليهما في مصر لأبلاغ الخديوى اتفاق الدولتين ، فقابله القنصلان وأبلاغاه رساله الحكومتين، ومضمونها أنهما تنصحان للخديوي رسميأ بالتنازل عن العرش ، والرحيل عن مصر وأنهما متفقتان في حاله قبوله نصيحتهما على أن تضمنا له مخصصات سنويه لائقة به، وان لا يحصل تغيير في نظام توارث العرش الذى يقضى بان يكون الأمير توفيق باشا خلفأ له، فتأثر الخديوى بهذه الرساله تأثرأ عميقأ ، وشعر بالسهم المصوب إلى مركزه ومصيره ، فطلب مهله يومين ليفكر في الأمر، ولما انقضى الميعاد جاءه القنصلان ، يطلبان جوابه النهائي، فأجابهما أنه عرض الأمر على السلطان وأنه ينتظر جوابه، وجاءه قنصل المانيا وقنصل النمسا، وطلبا إليه التنازل عن العرش مؤيدين طلب قنصلي إنجلترا وفرنسا، وكان جوابه لهما مثل جوابه لزميليهما، وكان إسماعيل يأمل من الأنتظار أن تختلف الدول في طلب خلعه، وأن تنجح مساعيه الشخصيه لدى السلطان عبد الحميد، وأذ أوفد إليه بالأستانة طلعت باشا أحد رجال حاشيته ليستميل رجال المابين إلي جانبه ، وزوده بالمال والرشا والهدايا، ولكن السلطان أعرض ونأى بجانبه عنه ، وقد يكون لقلة المال المعروض دخل في هذا الإعراض ، وكانت الدول مجتمعه على التخلص منه وأستقر عزم السلطان على خلعه إجابه لطلب الدول، وفي ليلة 24 يونيه ورد على المسيو تريكو قنصل فرنسا العام في مصر نبأ برقي من الأستانة، فحواه أن الباب العالي عوّل على عزل الخديوي وتولية الأمير حليم باشا ( عبد الحليم ) مكانه ، وبالرغم من ورود هذا النباء في ساعة متأخرة بعد منتصف الليل ، دي سورما قنصل المانيا ، إلي سراي الخدوي وطلب مقابلته ، فأحدث مجيئهم في تلك الساعة المتأخرة من الليل انزعاجاً في السراي ، وخاصة بين السيدات من أل إسماعيل ، وتوهمت والدة الخديوي أن سمة مكيدة تدبر لقتلة، فرجته أن لا يقابلهم ، ولكنه إذ علم أن القادمين هم قناصل إنجلترا وفرنسا والمانيا ، وأن شريف باشا كان معهم، رضي بمقابلتهم ، وكان في حالة إضطراب شديد فطلب إليه القناصل أن يتنازل عن العرش ولكنه رفض وسبت على الإباء.

وكان يأمل حتى أخر لحظة أن تختلف الدول فيما بينهم ، أو يرفض السلطان النزول على رأيهن ، ولكن الدول بقيت على إجماعها في شئنه ، وما زال سفرائها في الأستانة يستعجلون قرار الخلع حتى نالوا بغيتهم ، وأصدر السلطان بناء على قرار مجلس الوزراء " إرادة " بخلع إسماعيل وتنصيب توفيق باشا خديوياً لمصر ، وطير الصدر الأعظم هذه الإرادة بالتلغراف إلي إسماعيل يوم الخميس 26 يونيو سنة 1879 ، وهذا تعريبها :

” " إلي سمو إسماعيل باشا خديوي مصر السابق.
أن الصعوبات الداخلية والخارجية التي وقعت أخيراً في مصر قد بلغت من خطورة الشأن حداً يؤدي استمراره إلي ايجاد المشاكل والمخاطر لمصر والسلطنة العثمانية؛ ولما كان الباب العالي يرى أن توفير أسباب الراحة والطمأنينة للأهالي من أهم واجباته ومما يقضيبه الفرمان الذي خولكم حكم مصر، ولما تبين أن بقائكم في الحكم يزيد المصاعب الحالية، فقد أصدر جلالة السلطان إرادته بناء على قرار مجلس الوزراء بإسناد منصب الخديوية المصرية إلي صاحب السمو الأمير توفيق باشا وأرسلت الإرادة السنية في تلغراف آخر إلي سموه بتنصيبه خديوياً لمصر، وعليه أدعو سموكم عند تسلمكم هذه الرسالة إلي التخلي عن حكم مصر احتراماً للفرمان السلطاني".

وصلت هذه الرسالة التلغرافية إلي سراي عابدين في ضحى ذلك اليوم ، وتسلمها أولاً ذكي باشا السر تشريفاتي ، وكان معه في حجرته بالدور الأول من السراي خيري باشا المهردار " حامل الختم " ، وبعض كبار الموظفين ، فلما رأوا الرسالة مصدره بعنوان إسماعيل باشا " خديوي مصر السابق " ، وجفت قلوبهم ، وعلاهم الأضطراب والاصفرار ، وفهموا أنها تحوي شراً مستطيراً ، وحاروا في طريقة إلي الخديوي ، الذي كان وقتئذ بالدور الثاني ، فامتنع ذكي باشا عن أن يحملها إليه ، واحال هذه المهمة إلي المهر دار ، فأبا خيري باشا قائلاً أن هذا من شأن الوزراء ، وبينما هما يتجادلان ، أقبل شريف باشا رئيس الوزراء ، فسلمت إليه الرسالة ، وأدرك ما تحويه ، فرأى من واجبه أن يحملها بنفسه إلي الخديوي ، فصعد إلي الطابق الثاني وقابل إسماعيل وسلمه الرسالة ، ففضها وتلاها ، وعلم فحواها ، فقابلها بالصمت والجلد ، وطلب إلي شريف باشا أن يدعوا إليه الأمير توفيق باشا فوراً.

فخرج شريف من حضرة " الخديوي السابق " ، ليقابل الخديوي الجديد وذهب إليه في سراي الأسماعيلية ، وكان توفيق باشا قد تلقى الرسالة البرقية الأخرى بأسناد منصب الخديوية إليه ، فذهب الأمير إلي سراي عابدين يصحبه شريف ، وصعد وحده إلي الطابق الثاني فتلقاه أبوه مخاطباً إياه " يا أفندينا " وسلمه سلطة الحكم ، وكان الموقف مؤثراً ، ثم ترك إسماعيل قاعة العرش ، ودخل الحرملك ، تكتنفه الهموم والأحزان.

وفي اليوم نفسه في منتصف الساعة السابعة مساءً أقيمت حفلة تولية الخديوي توفيق باشا في سراي القلعة ، واستقبل فيها وفود المهنئين وأخذ إسماعيل يتأهب للرحيل عن البلاد.

وحدد يوم الإثنين 30 يونيو للرحيل عن الديار المصرية ، وقضى إسماعيل هذه الأيام الثلاث يستعد للسفر ، ويجمع ما استطاع أخذه من المال والمجوهرات والتحف الثمينة من القصور الخديوية ونقلها إلي الباخرة ( المحروسة ) التي كانت معدة لركوبه بالإسكندريه وكان يوم رحيله يوماً مشهوداً ، أذ ازدحمت سراي عابدين منذ الصباح بالكبراء والذوات الذين جاءو يودعون الخديوي السابق ، وفي منتصف الساعة الحادية عشر أقبل الخديوي توفيق على أبيه يودعه ، وعند الساعة الحادية عشر خرج الخديوي السابق متوكئاً على نجله ودلائل الحزن بادية عليه ، وركب العربة وجلس توفيق باشا على يساره ، وركب بعدهما الأمراء والكبرء ، وسار الموكب حتى بلغ محطة العاصمة وكان الجند مصطفين على الجانبين تحيي للخديوي السابق.

ولما بلغ الركب المحطة ترجل إسماعيل باشا ووقف توفيق باشا يودعه وعيناه مغرورقتان بالدموع وكان إسماعيل شديد التأثر من هذا المنظر ، منظر رحيله النهائي عن القاهرة التي كانت مسرحاً لمجده وبذخه وسلطانه السنين الطوال ، فوقف يخطب الحاضرين خطاباً مؤثراً ثم التفت إلي نجله وودعه قائلاً:

” "لقد اقتضت إرادة سلطاننا المعظم أن تكون يا أعز البنين خديوي مصر، فأوصيك بأخوتك وسائر الآل براً، واعلم أني مسافر وبودي لو استطعت قبل ذلك أن أزيل بعض المصاعب التي أخاف أن توجب لك الارتباك، على أني واثق بحزمك وعزمك، فاتبع رأي ذوي شوراك، وكن أسعد حالاً من أبيك." “
—الخديوي اسماعيل مخاطباً ابنه الخديوي توفيق

وقال الذين شهدو هذا المنظر أنه أبكاهم جميعاً.

ثم ركب القطار الخاص ، فبلغ الإسكندرية في الساعة الرابعة بعد الظهر واستقبله فيها في محطة القباري محافظ الثغر، وبعض الرؤساء والكبراء ، وركب الزورق المعد له ، وتبعته زوارق المشيعين ، وسار حتى أستقل الباخرة ( المحروسة) ، ولما وصل إليها أطلقت المدافع إذاناً بوصوله ورفعت البوارج الحربية أعلامها تحية له ، وأستقبل على ظهر الباخرة بعض المشيعين الذين جاءو يودعونه الوداع الأخير.

ولم يملك إسماعيل صبره ، فترك مشيعيه بعد أن ودعهم ، ونزل إلي غرفته بالباخرة ، ثو غادرها المودعون ، وبعد هنيهة أقلعت ( المحروسة ) وأخذت تشق عباب الماء حتى غابت عن الأبصار ، ومالت شمس النهار إذ توارت بالحجاب ، فغربت معها شمس إسماعيل ، وسارت الباخرة إلي نابولي تحمل العاهل الذي قضى سبعة عشر عاماً يحكم مصر بمطلق إرادته ، ثم انهار بأن فقد عرشه وملكه وماله ، وكم من مرة أقلته ( المحروسة ) من قبل في إبان مجده ، وشهدت رحلاته إلي الأستانة وإلي أوربا ، حين كان يروح ويغدو تحفه المهابة والجلالة ، وتعني له الأماني والآمال ثم حملته للمرة الأخيرة بعد ان نزل عن عرشة ، وطويت صفحته ، وقضي عليه بالنفي والحرمان ، فكانت خاتمتة إحدي عبر الزمان.

ولا مجال للشعور بالعطف على إسماعيل والأعجاب بما أبداه من الشجاعة والإباء بالازمة التي أنتهت بنزوله عن العرش ورحيله إلي منفاه ، فقد كان حقاً عظيماً في موقفه ، شجاعاً في محنته وناهيك بشجاعته جعلته يغامر بعرشه في سبيل مقاومة الدول الأوربية جمعاء، فلو هو ارتضى الذل والهوان، وأذعن لمطالب الدول، وقبل عودة الوزيرين الأوروبيين يسيطران على حكومة مصر ومصيرها، لضمن لنفسه البقاء على عرشه ، ولكن أثر المقاومة على الأستمساك بالعرش، وقليل من الملوك والأمراء من يضحون بالعرش في سبيل المدافعة عن حقوق البلاد ، فالصفحة التي انتهى بها حكم إسماعيل هو بلامراء من الصحائف المجيدة في تاريخ القومية ، لأنها صفحة مجاهدة واباء وتضحية، وهي لعمرى تضحية كبرى، لأن عرش مصر وتاجها وصولجانها ليست من الأمور الهينة التى يسهل على النفوس العاديه أن تزهد فيها ، أو تغامر بها، ولكن إسماعيل ضحى بها في سبيل مقاومة المطامع الاستعمارية، وهذه التضحية حقها من الإعجاب والتمجيد.

ومن يتأمل في هذه المأساة لا يسعه إلا أن يألم لمصير إسماعيل ، فقد كان جديراً بخير من هذا المصير، كما أن مصر قد تكون أسعد حظا لو بقي على عرشه ، فإنه في السنوات الأخيرة من حكمة أخذ يطرح الأغلاط القديمة، ويوجه مواهبه العالية إلى إنقاذ مصر من التدخل الأجنبي ، وكان له من ذكائه ومضاء عزيمته وتجاربه الماضية ما يكفل له التوفيق والسداد، ولكن المآرب الاستعمارية، والدسائس الإنجليزية والفرنسية، ألقت العقبات في طريقه، ومازالت تناهضه وتغالبه، حتى غلبته على أمره وأقصته عن عرشه.

وبذلك انسدل الستار على الفصل الأخير من حكم إسماعيل.

إسماعيل في منفاه:
وصل إسماعيل باشا إلي نابولي بإيطاليا حيث أعد له الملك امبرتو قصراً لسكناه ، فأقام به هو وزوجاته وانجاله وحاشيته ، واخذ يتنقل بين مختلف العواصم الأوربية ، ولم تفارقه آماله في العودة إلى عرش مصر ، وسعى إلى ذلك سعياً حثيثا ولكنه أخفق في مساعيه ثم سكن الاستانة منذ سنة 1888 ، وأقام بقصره إميرجان على البوسفور ، وظل مقيما فيه.

وفاته:
إلي أن وافته منيته يوم 2 مارس سنة 1895 ، وله من العمر خمس وستون سنة ، فنقل جثمانه إلي مصر ، ودفن في مسجد الرفاعي بالقاهرة.!!

وبحسب كتاب "أحمد عرابى" للكاتب محمود الخفيف، مستندًا للكاتب الكبير محمد حسين هيكل، فإن الخديوى توفيق باشا، فوجئ بالخبر وفزع له حتى لقد قابل موظف قصره، الذى أبلغه القرار، أسوأ مقابلة بل إنه صفعه، وذلك كونه شعر فى ذلك الحين بأن التركة التى آلت إليه أعباؤها هى تركة مخوفة، مشيرًا إلى أنه رغم محاولات السلطان العثمانى فى المناورة من أجل أعادة الأمور وفرض سيطرته عليها، إلا أن إنجلترا وفرنسا تدخلتا بحسم فى الأستانة، وأدى ذلك لتثبيت قرار السلطان بتولى توفيق "الضغيف المتردد الخائف من الجميع وغير المؤهل على الإطلاق للحكم" كما يصفه الكتاب، للاعتماد على إنجلترا وفرنسا وتلبية كل طالباتهم لضمان بقائه فى الحكم.

فيما يذهب كتاب "انتفاضات أم ثورات فى تاريخ مصر الحديث" للكاتب محمد حافظ دياب، أن الوثائق التاريخية تذكر أن توفيق أجاب على فرمان السلطان العثمانى بتعيينه "خديوي"، بالقول: "لقد بدأت بظليل ظل الحضرة السنية الملوكانية بمباشرة أمور الخديوية، عالمًا علم اليقين أن سلامة الخديوية المصرية تحصل بالثبات على قدم العبودية والتابعية للسلطة السنية"، وكان ذلك إيذانًا بالتحول من محاولة الاستقلال إلى تكريس التبعية، لا للحضرة السنية الملوكانية فحسب، بل للقوى الأوروبية التى تواطأت على جده محمد على...!!