تأليف – روماني صبري 
 
يجلس الأستاذ حامد على مائدة الطعام التقليدية يثرثر كعادته وهو يقضم صدر دجاجة محمرة، أعدتها زوجته للعشاء بعدما اقتسمها مع أفراد أسرته وهو يتابع مباراة كرة قدم تكبد فيها فريقه الكثير من الخسائر، في الحقيقة باتت ثرثرته ظاهرة الفتها الأسرة، فحين يستحيل إلى شخصا حانقا تهز زوجته رأسها غير مبالية وتمعن فيه النظر، كونها لا تحب الكلام، فتقطب حاجبيها على حين فجأة في الكثير من المرات ثم تأخذ تقبل "احمد" طفلهم صاحب التسع سنوات، اختصها زوجها قائلا :" أتحلين المشاكل بهذا الصمت اللطيف، عليك مساعدتي في الإقلاع عن مشاهدة مباريات كرة القدم والاستقالة من عملي ؟!، بالأمس عمد على توبيخ نفسه أمامهما فدمدم يقول : لا يزال أمامي الكثير لأتعلمه حتى أغدو أنسانا لطيفا صافي النفس فيحمر وجهي خجلا وأخذ اربت على كتفي زوجتي وطفلي، نعم وقتها سأبذل قصارى جهدي حتى لا انزل بروحهما الحزن والضيق." 
 
استرجاع 
في احد الأيام قبل أن يودع والد حامد الحياة بأيام تذكر وكان ذلك في العام الماضي، هاتفه وقال له احضر على الفور، تحجج بعذر وغادر المدرسة، اللعنة عليك وعلى التلاميذ والدك يحتضر، فإذا به يثب من على كرسيه في الفصل وقد ازداد صلابة !، نعم دائما ما يستحيل إلى شخصا قويا في الأزمات، فما كان من التلاميذ إلا الهمس بينهما، وتوقع كثيرون منهم أن حادثا مؤسفا وقع لأحد أفراد أسرته، فكيف لهذا الإنسان العصبي الذي جعل من بيته قسما للبوليس أن يعتقد انه قويا!، حين وصل إلى منزل والده، وقع الأخير في نوبة ضحك هستيري، واختصه قائلا :"  وقعت في فخي، أنا على ما يرام كل ما في الأمر إنني تعثرت وأنا اعبر الطريق فسقطت فكادت تدهسني سيارة نقل تقيل جاءت مسرعة، فبكيت .. بكيت كثيرا، حتى كدت أدمر أريكة منزلي الجلدية والتي كانت تحبها والدتك كثيرا رحمها الله.
 
واستطرد يقول بعدما احتضنه نجله وراح يقبل رأسه كثيرا ويواسيه :" أبقيت عيناي مغمضتين قرابة 10 دقائق، وفكرت في مغادرة المنزل، قلت من الجميل الذهاب لمنزل ابني والتقاط الصور الفوتوغرافية مع أسرته عبر هاتف أحمد الصغير، حقا لكم كانت فكرة شديدة العبقرية لكن قدماي لم تحملاني من هول السقطة، حسنا هذا لا يهم الآن، ولن أقول اللعنة على الشيخوخة كوني مؤمن بالله، حامد نحن نحب الله في الحقيقة، وأنت  لكم ظفرت أيها الوغد بزوجة صالحة لا تجيد الشكوى، وليس لدي أدنى فكرة عما يدور بينكما، لكن عيناها تقولان الكثير، فقطاعه حامد قائلا :" دعك من زوجتي أنها جميلة وعلى ما يرام وحياتنا تسير بكيفية جيدة، هيا الآن لاصطحبك للطبيب، ثم شرع يضحك : لم اطوي أوراق الدرس واضعها داخل حقيبتي، ولم أقدم عذرا للمدير، ونادرا ما حدث هذا، في الحقيقة ابنك يحبك كثيرا أستاذ سيد، هيا انهض سيارتي أمام المنزل لم نعد بحاجة لركوب المواصلات العامة والخاصة.
 
فرد والده :" اصمت الآن كفاك ثرثرة، اسمع الخادمة التي تدير شؤون منزلي، تبادلت أطراف الحديث مع احمد عندما زارني برفقه والدته، أعدت له الايس كريم اللذيذ، وأطفئت المصابيح، عدا مصباح الصالة، وقالت له لماذا عنفتك والدتك قبل أن تذهب للعمل ؟!، الخادمة من أخبرتني بذلك، فأجابها قائلا قبل أن يتسمر في مكانه خوفا :" كونني ابغض أبي وأتمنى له الموت، فهو شخص حاد الطباع ويخفيني، قالت : هل يعتدي عليك بالضرب كثيرا، قال : لا، فقط يعنفنا ويحب كرة القدم كثيرا، وإذا خسر فريقه يعزف عن تناول الطعام وان كان جائعا يأكل على عجل فينتهي اليوم بشجار مع والدتي، ابنك في خطر يا حامد، وما ردك على هذا اخبرني ؟.
 
راح حامد يضحك قائلا :" من شابه أباه فما ظلم، حقا لكم يشبهني صغيري، فعندما كنت في مثل عمره كنت أكرهك كثيرا، حتى إنني أتذكر انه ذات يوما أخذت والدتي تنظف أسناني وأذني وبعدها راحت تقص لي أظافري، وعلى حين فجأة قلت لها :" أنا اكره والدي، كحال غالبية تلاميذ الفصل، انه يعنفنا ولماذا هو والدي، انه يجعلني خجلا أمام زملائي، ولماذا هو شديد العصبية، أمي أتوسل إليك انقليني فصل آخر، فردت :" هو يحبك يريدك أن تبقى أمام مدى بصره، ستعلم تلك الحقيقة عاجلا أم آجلا، وبالفعل صدقت..  أبي المرء يدرك انه حين يسقط الإنسان عندما تعرفه الشيخوخة يستحيل إلى إنسان آخر، مثلما تفعل الآن.
 
:  عموما ما قلته لك يا بني غاية الأهمية، وكوني زوجتك من امرأة لم تكن ترغب في الزواج منها، لا يعني ذلك أن تحول حياتها لجحيم، مرد كلامك انك ورثت عني العصبية والوظيفة، إذا أنت تقولها عامدا إنني السبب في ما أنت عليه الآن. 
 
/ نعم أصبت لكم تتمتع بأشد الذكاء يا أبي، لكنك لم تحب كرة القدم لطالما أبغضتها وسخرت من مشجعيها، لذلك وعلى عمدا لن أصوم عن مشاهدتها... مشاهدة كرة القدم تكفير أقدمه لأنني ... لأنني لم انتشل نفسي وبت الإنسان الذي أردته أنت لا أنا ، لذلك أنا أتمسك بحبها هذا حقي، لن يعرفني كره كرة القدم، اعلم ذلك كل العلم، ولتعلم أن حياتي تحمل الكثير من اللذة رغم إنني أعيش بنفس الكيفية التي عشت بها حياتك ! .
 
: أنا عجوز مريض سقطت مؤخرا، لكن كونك تعتقد إنني أخبرك بذلك حتى أصحح أخطائي لتمنحني غفرانك على خلفية سقوطي وحيدا جراء الشيخوخة اللعينة، في هذه الحالة أنت واهم ... سحقا قد رددتها ... حسنا على أي حال لا تحرمني من حبك، والطريف في الأمر إنني اطلب غفرانك، هيا أيها الوغد خذني للطبيب.   
   
يضحك حامد بكيفية يغلب عليها الضيق ويأخذ يساعد والده في النهوض قائلا :  منذ شهر مضى أو أكثر كنت أخبرتني انك لم تروي لي اسعد يوم قضيته مع والدتي ؟ .. ماذا حدث بينكما  في هذا اليوم ؟ !.
 
: ههههه ماكر أنت كوالدك .. سأخبرك، رغم إنني لطالما عنفتها تنفيذا لوصية جدتك رحمها الله، إلا انه ذات يوما في شبابنا عندما هبط المساء بت قليل الضجر تجاهها، وليس مرد ذلك أن والداتك كانت مريضة، على العكس تماما كانت في أشد قوتها وظهرت معتنية بنظافتها وهندامها، وعلى حين فجأة قبلت يدها، ما انزل الدهشة بها فقلت لها :" أهي الفطرة ؟.. ولماذا والدتي تتعامل معي بهذه الكيفية، ولماذا رفضت مغادرة الصعيد، ولماذا أنتي شديدة الأنانية مثل والدتي رغما أنها تبغضك وقاسية عليك ؟! .
 
عودة 
ترقد زوجة حامد على الفراش في حضنها طفلها، بينما الزوج في الصالة يتابع مباراة كرة القدم، تعدل الأم من نفسها بهدوء دون أن تنفك عن احمد فتقول له :" سأجدد طلبي سأظل الح على والدك حتى يوافق ويحقق حلمي بركوبي خلفه على الموتوسيكل، وقتها سأحتضنه بشدة، نعم اقسم بذلك، فقط احتاج لمرشد ديني حتى يقنعنا أن هذا الفعل ليس فيه أي عيب أو حرام ولن يغضب الخالق .
 
"تمت"