عاطف بشاي
فتى وسيم يافع يجرى لاهثا كالأبله وراء فتاة حسناء على شاطئ بحر خال من البشر، والشمس على وشك المغيب.. تصرخ فى نزق ومرح.. وهى تراوغه وتفلت منه بعد أن كاد يدركها.. تحتمى بشجرة.. تدور حولها متدللة متمنعة حتى يتمكن من أن يحتويها.. فيغيبان فى قبلة طويلة محمومة.. أو تقع منهكة على الرمال الساخنة فيجثم فوقها مشتعلًا برغبة متأججة.

تذكرت ذلك المشهد النمطى الذى نراه دائمًا فى أفلامنا.. ويتكرر فى إلحاح عبر تاريخ السينما المصرية بنفس تفاصيله ويكاد أن يكون هو التصور الوحيد للتعبير عن الحب بين البطل والبطلة.. حتى ما إذا ما فشلت هذه العلاقة يتكرر أيضًا ذلك المشهد النمطى له منهارًا فى بار يشرب حتى الثمالة وينعى حظه العاثر.. وعاهرة تطيب خاطره فى ود يكشف عن نقاء سريرتها وتطهرها من فحش ورذيلة مارستهما تحت وطأة قهر الأيام الممرورة والبائسة.. تذكرت ذلك وأنا أقرأ كتابًا بديعًا للناقد الكبير «رؤوف توفيق» هو «سينما الحب» ويستعرض فيه بسرد رشيق.. وبلاغة آسرة وعمق فى التحليل الفكرى والفنى والنفسى والفلسفى عددًا من أفلام السينما العالمية خلال حصيلة مشاهداته السينمائية فى المهرجانات العالمية.. والتى تحوى قصصًا من الحب وقع هو نفسه فى غرامها وأراد أن ينقلها إلى القارئ وتعمد فى اختيارها أن تكون معبرة عن مشاكل الإنسان وظروف المجتمع التى تؤثر فى ميلاد الحب أو اغتياله أو الحرمان منه تمامًا.. وهو يضع يده فى هذه الأفلام حول «جوهر الحب» وسلوك المحبين الذين يرتفعون إلى سمو معانى الإخلاص والرجاء.. والعزاء الذى يريح نفوسنا والدواء الذى يضمد الجروح والحنان الذى يبلل الجباه ويفتح العيون على آدميتنا الحقيقية.. إنها تلك اللحظات النادرة حينما نسند رءوسنا على صدر من نحب.. وتنام أيدينا معًا.. ويصبح الصمت له طعم ونشعر بالأمان والحماية والقدرة على الاعتراف والتطهر.

عن لحظات الحب.. تلك التى يصفها الناقد بأن المحبين يحسان أنهما يمتلكان العالم يصنعان لأنفسهما لغة خاصة.. يبنيان بها أحلامهما.. ويسبحان على أمواجها فى سعادة ونشوة.. فى هذه اللحظات يشعر الإنسان أن عروقه امتلأت بالحياة.. وأنه امتلك كل شىء.. القوة.. التفاؤل.. والحماس.. والرغبة.

فى الفيلم الفرنسى «أشياء للحياة» بطولة «ميشيل بيكولى» و«رمى شنايدر» وإخراج «كلود سوتيه» وفى مشهد يلتقى فيه بطل الفيلم ببطلته فى المطعم.. يقول لها لماذا لا تخلعين نظارتك؟!.. تقول له: لو خلعتها لن أرى شيئًا.. يسألها ما الذى تريدين رؤيته؟! ويمسك بيدها ويضعها على وجهه لتحسسه فيقول لها «هأنذا»..

إنه مشهد حب فى غاية الرقة والشاعرية يوحى فيه المحب أن عليها أن تكتفى به عن العالم بأسره ولا ترى سواه.. دون إكليشيهات من حوار تقليدى أو بوح مباشر.. أو تكرار لمشاهد نمطية سطحية أو مفتعلة.. نراها فى الكثير من أفلامنا.

وفى فيلم «زهرة عباد الشمس» للمخرج العالمى الكبير«فيتوريو دى سيكا» رائد السينما الواقعة الجديدة فى إيطاليا.. بطولة «صوفيا لورين» و«مارشيلو ماسترو» حيث تربطهما قصة حب ملتهبة تتوج بالزواج أثناء الحرب العالمية الثانية.. ثم ينضم إلى القوات المسافرة إلى الجبهة الروسية.. تنتهى الحرب ويعود الجميع إلا هو.. تبحث عنه فى كشوف الجرحى والقتلى وتسافر إلى «موسكو» تسأل عنه فى كل مكان وفى يدها صورة تقدمها إلى كل من يصادفها فى رحلة مضنية.. وتدق كل أبواب المنازل حتى تجده وتكتشف المفاجأة الصاعقة.. لقد تزوج وله طفلة.. ونفهم من السياق أن الزوجة الروسية وجدته غائبًا عن الوعى تغطيه الثلوج وقد فقد الذاكرة.. تنقذه وترعاه فى منزلها ويتزوجها حيث يجد الأمان والطمأنينة فى علاقته بها.. وتعود الزوجة الإيطالية إلى وطنها منهارة.. لكن الزوج وقد عادت إليه ذاكرته.. يفشل فى نسيانها.. فيسافر إليها.. وكان اللقاء فى واحد من أعظم وأجمل مشاهد الحب.. يصفه «رءوف توفيق» بعبارة بليغة تشير إلى عنوان الفيلم فيقول «عليهما أن يكونا كزهرة عباد الشمس.. عبيدًا للقوة الاكبر التى تشكل حياتهما».. وقد عبر عن ذلك «دى سيكا» عن طريق قطع النور عن المدينة فى لحظة المواجهة بينهما حيث يبدى كل منهما دهشته ومرارة المعنى الناجم عن الظلام.. هل بعد كل هذه السنوات.. بعد كل هذا السفر.. بعد كل هذا الانتظار.. نتقابل ولا نرى بعضنا بعضًا؟!.

وفى المواجهة يبرر موقفه.. وهى تجادله وتعاتبه. وفجأة يعود النور ويضاء المكان.. فيغطى كل منهما وجهه بيديه ونسمع صوت طفلة تبكى.

إن الاضاءة تكشف عن الحقيقة التى حاول كل منهما أن يهرب منها.. فالواقع أنها هى الاخرى تزوجت وأنجبت طفلة.. والحقيقة تقول بالضوء الساطع الكاشف إن الماضى قد مات.. وأن الحاضر يفرض نفسه.. والحاضر يمثل حياة مختلفة لكل منهما.

وعن طريق لغة الضوء والإعتام يحقق المخرج العبقرى رؤيته ليؤكد أن فن السينما العظيم قادر على أن يعبر بلغته الخاصة ورموزه السحرية وصوره المرئية عن أعمق الأفكار وأجمل المشاعر وأبلغ الرؤى بوسائل مبتكرة وحلول مبهرة تجود بها عقول مبدعة وخلاقة دون الوقوع فى براثن النمطية الزائفة أو الإكليشيهات التقليدية أو التكرار السخيف.

Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم