مفيد فوزي
الكلمة ليست مجرد «حروف» متشابكة عائمة فى الهواء. الكلمة مضمون ومحتوى له دلالة وأبعاد، وربما رسالة. الكلمة منطوقة أو مكتوبة من المفترض أنها تحررت من الضغط والخوف وأشياء أخرى. الكلمة طلقة فى وضح النهار، تزيل العتمة.

■ ■ ■

للكلمة مذاق وأحياناً لها عطر، وقد تحرضنى على البوح أو السكوت. قد ترهق ذهنى أو تلقينى فى خيمة أكسجين. وقد تثير عاصفة لا أعرف مداها، يعقبها «ندم اضطرارى»! وقد تعودت المراجعة لا الندم لأن الكلمة خرجت فى حراسة عقل، وحين أكون مسؤولاً عن كلمة لا أمارس الندم لأنى أعرف المسؤولية الأدبية والأخلاقية لما يخرج من فمى.

■ ■ ■

هناك كلمة مباشرة، «دوغرى» كما كان يسميها فكرى أباظة، وكلمة مطاطة تقبل التأويل على ألف وجه، وهى كلمة فاجرة تتعرى وتقنعنا بأنها ملتحفة بأوراق الشجر. وحين أكتب أختار من الكلمات ما يخدم الموضوع لأصل إلى الهدف، فكلمتى لا تلعب على أوتار ولا تعرف إمساك عصا من منتصفها، ولهؤلاء أحزاب اسمها «الإمساك بالعصا من نصفها» وهؤلاء يبغون السلامة والوصول إلى الشاطئ بأقل الخسائر الممكنة! هؤلاء يقفون فى منطقة الحياد الكاذب والحياد موت للأشياء..!

■ ■ ■

حين تكون الكلمة مبتلة بالحرية أو مكحلة بالجسارة، أتبناها وأصف بجوارها وقد أُقبّلها خلسة. فما أحلى الكلمات التى لا تخشى زنزانة معتقل أو إيقاف قلم. ما أجمل الكلمات التى تحمل فى طياتها التبصير أو التغيير. ما أعظم أن تضرب كلمة الاعوجاج الذى تراه وتكشف أوراقه وتعريه، فهذا هو دور الكلمة فى مجتمع نامٍ من المجتمعات النامية. وما أرخص الكلمة عندما يؤديها شواكيش المهرجانات، وما أبخس ذوق العامة الذين يعطونها آذانهم بشغف الجهلاء. ومعذور جمهور الشواكيش والمسامير، فلم يقابلوا الكلمة الراقية فى شدو أم كلثوم وترتيلات فيروز!

■ ■ ■

ما أحوجنا إلى موسيقى «الجدل بالكلمات» فى السياسة والأدب، فهى دليل عافية أمة. نظامها السياسى الحر، معارضتها الوطنية، أقلام المهنة السابحة فى مياه حرية. عقول ساستها المفتوحة لا الضيقة لكلمة نقد أو وجهة نظر أخرى، وإلا كان مستقبل المعارضة فى الحياة السياسية غامضاً. فالمعارضة جزء من النظام، وكلمات المعارضة هى فى واقع الأمر «نيران صديقة».

■ ■ ■

الكلمة عند السياسى تلبس جوانتى وتقال بالشوكة والسكينة، ولا تتجاوز معناها وإلا حدثت أزمة سياسية. وعند المسؤول يحاسب عليها إذا كانت «أمانى وكلام أغانى»، وعند الكاتب الجاد قلم معبأ بحبر الإنصاف لا يعرف الهوى أو الشخصيانية، والكلمة عند كاتب المسرح مصابيح مضيئة. ألم يقل عبدالرحمن الشرقاوى: «بعض الكلمات حروف من نور، وبعض الكلمات قبور»!!

■ ■ ■

للكلمة إيقاع ونكهة وزمن. نحن نرسم بالكلمات مشاعرنا حين نهوى، وتشتعل الكلمات بنار الشوق والشغف قبل الفراق والوجع. الكلمة تأتى مهذبة وتستأذن فى أزمنة الرقى، وتأتى غجرية لا تبالى بشىء، وتأتى متعجرفة حين سمحنا لها. تذيب جمودنا وضيقنا كلمة، وربما تورطنا كلمة. وأنا ياما ورطتنى كلمات لم تمر على مصفاة الرشد، بيد أنها عاقلة وحقيقية وصادقة وصادمة لكن كل ما يأتى على الخاطر يقال، وصحتها «ليس كل ما يأتى على خاطرى يقال»! لهذا تصيب الكلمة الصادقة «مغص قومى» إن بقيت معتقلة فى الصدور. وحين لا تأتى الكلمة الصادقة على سن قلم كاتب أو لسان معارض تحت قبة برلمان.. تنتحر فى صمت.

■ ■ ■

الصدق كلمة والكذب كلمات مكسوة ببهتان زائف. الحب كلمة والخداع كلمات بعيون زائغة. الأمانة كلمة والخيانة كلمات يسبقها حلفانات. الجسارة كلمة والرعونة حالة فى طراوة الجيلى. الكلمة الطيبة صدقة. والكلمة الغليظة منفرة. والنساء يدغدغهن حلو الكلام وأشهاه. والجدل صراع مشروع بين كلمات حتى تستقر فى حضن برهان. أما الخطابة فهى كلمة فى فم مفوه فى حالة انفعال مؤقت هدفها التأثير على السامعين.

■ ■ ■

الكلمة عند ابن رشد فى قوة العقل، وعند محمود درويش فى أسر العاطفة، وعند نزار قبانى تهتف ما أحلى الرجوع إليه! وعند سعاد الصباح: الصلاة أمام الحروف! وبعض الكلمات يكتب لها الخلود كالفلاسفة والشعراء وساسة العالم العظام كغاندى وتشرشل. وبعض الكلمات توصف بأنها «جوفاء» أى خالية من الصدق والحكمة والأمانة، ليس لحروفها مصداقية، وتلعب على أوتار النفس. الكلمات التى نواسى بها بعض من فقدوا أقرب الناس إليهم، هى من أدب الافتقاد. هى كلمات تزرع السكينة والصبر مكان الحزن والهلع، ولا تعيد الميت للحياة!

■ ■ ■

عفويتى يحرس كلماتها العقل، وعفويتى هى وطنيتى النقية بلا شوائب، وعندما أمارسها فى الكتابة تجلب لى صداعاً بلا حدود خصوصاً لو خاطبت السلطة. ولو أفرجت الدولة عن كل كلمة معتقلة فى الصدور سيكف الهمس عن الهمس. لأن الهمس حين يتجمع يصبح تياراً من الغضب ربما.. لا يقاوم!

الكلمة ثورة وبعض الكلمات نعرة وفورة!

الشأن العام

مات مبارك

مات رجل عسكرى وطنى مصرى حتى النخاع، أعطى وطنه الكثير الذى لا يُحصى، وإنجازاته أكبر من أخطائه، وإن انتهز الإخوان الفرصة ودخلوا من ثغرة ٢٥ يناير واعتلوا المنصات. مات رجل «غير مؤذى» على الإطلاق حتى عندما تعرض فى بورسعيد لاعتداء طاله وسالت الدماء على ملابسه.

مات رجل رفع العلم فوق طابا، القطعة الغالية من مصر، وكان حكمه متوازناً، حاورته ٤ مرات على شاشة تليفزيون مصر.

أعوام طويلة مرت فى حكم مبارك، كانت «اللقمة هنية»، كما يقول الحس الشعبى. صحيح كان ينقص الناس بعض الاحتياجات الضرورية فى العلاج وتعليم الأبناء، ولكن الغلاء لم يكن قد استفحل من كبار التجار، كانت الأسواق تفى بمطالب البسطاء.

مات مبارك، غاب السيد عن بيته وترك الزوجة المكلومة سوزان التى كانت وراء قوانين كثيرة صيغت لصالح المرأة المصرية ومشاريع طموحة ثقافية.

مات مبارك وترك رجلين طحنتهما المحاكمات التى امتثلا لها كما امتثل الأب فى محاكمته الشهيرة، وبُرئت الساحات.

مات رجل عسكرى هو صاحب الطلعة الجوية فى حرب أكتوبر، الذى أسند له عبدالناصر مهمة إعداد النسور المصرية.

■ ■ ■

وكانت القيادة السياسية فى ٢٠٢٠ على مستوى الحدث، منتهى التحضر للاحتفاء برجل عسكرى من رجال القوات المسلحة المصرية، وبادرت بتعزية صادرة من رئاسة الجمهورية، وصادرة من مكتب القائد العام. مصر كبيرة.

■ ■ ■

مات محمد حسنى مبارك وسيقول التاريخ ما له وما عليه فى إنصاف لا يعرف الهوى.
نقلا عن المصري اليوم