فاروق عطية
   بعد أن استقرت الأوضاع في السودان ودان لحكم محمد علي باشا، اتجه تفكيره للاستقال بمصر والسودان والتخلص من تبعيتها للدولة العثمانمية. جاءته الفرصة المواتية علي طبق من ذهب حين تلقي الأمر من السلطان محمود الثاني بإرسال جيشه لليونان لإخماد ثورة المورة التي استعصت علي جنود الدولة العثمانية.

   كانت اليونان حتي أوائل القرن التاسع عشر جزءا من الدولة العثمانية، وفي هذه الفترة ظهرت في البلاد بوادر الثورة ضد الحكم العثماني بفعل تطور المجتمع اليوناني والرخاء الاقتصادي، وانتشار أفكار الثورة الفرنسية والتدخل الأوربي المباشر. شكلت الحركات الثورية والجمعيات السياسية السريّة والعلنية اليونانية خطرًا على وحدة الدولة العثمانية بدايةً من عام 1820م واتخذت مراكزا لها في كل من روسيا والنمسا لتكون على اتصال وثيق بالحكومات الأوروبية من جهة، وبعيدة عن رقابة واضطهاد الحكم العثماني من جهة أخرى. كانت هذه الجمعيات تدعو لإحياء الامبراطورية البيزنطية والاستيلاء علي الأسيتانة عاصمتها، وإخراج المسلمين من أوروبا ودفعهم إلى آسيا، وقد اتخذت الثورة في إقليم المورة بالذات طابعًا دينيًا، رافعة شعارً: الإيمان والحرية والوطن.

   واجهت الدولة العثمانية مصاعب كبيرة في محاربة ثوّار المورة، نظرًا لكثرة الجزر ووعورة المسالك التي اشتهرت بها بلاد اليونان، ومعرفة اليونانيين'> اليونانيين كيفية الاستفادة منها إستراتيجيًا ضد القوّات العثمانية. وعندما تفاقم خطر الثورة طلب السلطان محمود الثاني من محمد علي باشا أن يُرسل قواته إلى اليونان لإخضاع الثوّار واعدا إياه بتوليته علي بلاد الشام. قبل محمد علي باشا القيام بهذا الدور لأن الخطر موجه ضد دولة المسلمين عامّة متمثلة في الدولة العثمانية، وضد الإسلام خاصة متمثلا في السلطان العثماني خليفة المسلمين، فأرسل حملة عسكرية بقيادة حسن باشا نزلت في جزيرة كريت وأخمدت الثورة بها. كما أرسل حملة أخرى بقيادة ابنه ابراهيم باشا لإخماد ثورة المورة، نجح ابراهيم باشا في تنفيذ إنزال على شواطئها بعد اصطدامات بحرية قاسية بالأسطول اليوناني في 1825م، وتمكن من إنقاذ الجيش العثماني المحاصر في ميناء كورون. حاصر نافارين أهم مواقع شبه الجزيرة اليونانية وتمكن من دخوله. فتح كلاماتا وتريپولستا في يونيو 1825م، وطارد الثوّار واستولى على معاقلهم، عدا مدينة نوپلي، عاصمة الحكومة الثورية، واستعد للقضاء على آخر معاقل للثوّار في هدرا وأستبزيا وميناء نوپلي وميسولونجي التي سقطت في يد الجيش المصري وكانت آخر معقل كبير للثوار.

   نتيجة لانتصار الجيش المصري، قام اليونانيون بتحريك الرأي العام الأوروبي لإنقاذ الثورة، فنهضت جماعة من أقطاب الشعراء والأدباء يثيرون الرأي العام الأوروبي بكتاباتهم، ويحثّون الدول الأوروبية على التدخل لصالح الثورة. وفعلاً دعت بريطانيا روسيا للتشاور بغية الوصول إلى تفاهم حول مستقبل اليونان، وتكلّلت هذه المفاوضات بتوقيع پروتوكول سان بطرسبيرج الذي انضمت إليه فرنسا بعد فترة قصيرة، واتفقت الدول الثلاث على حث الباب العالي على عقد هدنة مع اليونانيين'> اليونانيين، ومنحهم قدرًا من الحكم الذاتي في إطار التبعية الاسمية للسلطان العثماني. لكن سقوط ميسولونجي في يد الجيش المصري قلب الأمور رأسًا على عقب، فاتجهت الدول الأوروبية وفي مقدمتها روسيا إلى العنف دعمًا للثوّار، فأرسلت سفنها إلى اليونان لفرض مطالبها بالقوة، ومنع السفن العثمانية والمصرية من الوصول إلى شواطئ هذا البلد، ووصول الإمدادات إلى الجيشين العثماني والمصري. حاصرت أساطيل الحلفاء الثلاث الأسطولين العثماني والمصري في ميناء نافارين وضربتهما دون سابق انذار ودمرتهما تمتما في 20 أكتوبر 1827م.

   في بداية المشكلة اليونانية كانت وجهات النظر العثمانية والمصرية متفقة على السياسة العامة، ولكن بعد تدخل الدول الأوروبية وانتصارها البحري في نافارين اختلفت وجهتيّ نظر الجانبين. فقد رأى محمد علي باشا أن لا فائدة تُرجى من مواصلة القتال، بعد أن فقد أسطوله وانقطعت طرق مواصلاته البحرية مع جيوشه في اليونان، وأن الحكمة تقتضي فصل السياسة المصرية عن السياسة العثمانية. ومما عجّل في سرعة اتخاذه قرار الانسحاب إرسال فرنسا قوة عسكرية انزلتها في المورة، وتلقّيه مذكرة من الدول الأوروبية تُصرّ فيها على فصل بلاد اليونان عن الدولة العثمانية، واستهداف مصر إذا استمر في اتباع السياسة العثمانية. لذلك فضّل محمد علي عزل مصر عن المشكلة اليونانية، وترك أمرها للسلطان. وفي 7 سبتمبر1828م بدأ انسحاب الجيش المصري من المورة على متن ما بقي من السفن، ولم يبق في اليونان غير ألف ومائتيّ جندي للمحافظة على بعض المواقع ريثما تتسلمها القوات العثمانية، إلا أن القوات الفرنسية قامت بهذه المهمة عوضًا عن القوات العثمانية.

   في حروبه السابقة لصالح الدولة العثمانية، جني منها الكثير كبسط نفوذه علي شبه الجزيرة العربية وامتداد حكمه جنوبا للسودان، أما حربه في اليونان وانقاذه لجيش السلطان واستعادة الدولة العثمانية هيبتها وسيطرتها علي اليونان لولا التدخل الأوربي، لم يجن منها شيئا بل فقد العدد الكبير من جيشه وأسطوله. بعد كل هذه التضحيات التي قدمها للدولة العثمانية كان يطمح أن يمنحه السلطان ولاية كبرى، لكن السلطان اكتفى بأن أقطعه جزيرة كريت تقديرًا لخدماته وتعويضًا عن بعض ما فقده، لكن هذا التعويض لم يكن ذا قيمة تذكر، إذ لم يكن من السهل أن تحكم مصر هذه الجزيرة وتستفيد منها، لاشتهار أهلها بالعصيان والتمرّد. لذا رأى أن يضم بلاد الشام إلي مصر حني تكون حاجزا يقي مصر الضربات العثمانية مستقبلا وإنشاء سلطنة عربية اسلامية تنافس السلطنة العثمانية. وبسط نفوذه على هذه البلاد سيمكنه من تجنيد جيش من سكانها فيزداد يذلك عدد أفراد جيشه. كما أن استغلال موارد بلاد الشام، من النحاس والحديد والفحم الحجري والأخشاب التي تفتقر إليها مصر سيفيدها اقتصاديا، فضلاً عن أهميتها بسبب موقعها الجغرافي واتصالها بالأناضول، وعلاقتها التجارية بأواسط آسيا حيث تمر قوافل التجارة، أيضا لموقعها على طريق الحج لبيت الله الحرام.

   مهّد محمد علي لتنفيذ خطته، بأن أخذ يوطد علاقاته بأقوى شخصين في المنطقة وهما: عبد الله باشا بن علي والي عكا وبشير الثاني الشهابي أمير لبنان، وكلاهما مدين لمحمد علي بالبقاء في منصبه. أما عبد الله باشا فكان محمد علي قد ساعده لدى السلطان إثر خلافه مع والي دمشق سنة1821م فرضي عنه السلطان وأقرّه على ولاية عكا، كما كان محمد علي قد أمدّه بالمال في معركته ضد والي دمشق. أما الأمير بشير فكان قد ناصر عبد الله باشا في ذاك الخلاف، وسار على رأس جيشه وحارب والي دمشق وهزمه. وما كادت الدولة العثمانية تطّلع على هزيمة والي دمشق حتى جرّد الباب العالي حملة عسكرية قوية اضطرت الأمير بشير إلى ترك البلاد، والسفر إلى مصر، حيث رحّب به محمد علي، واتفقا على التعاون معًا. ولمّا كان محمد علي على وفاق مع السلطان، فقد استطاع أن يسترضيه ويُلطف موقفه من الأمير بشير، وأن يُعيده إلى إمارته. ونشأت بين الأمير ومحمد علي علاقة وثيقة وصداقة متينة بعد أن جمعهما طموح مشابه، ألا وهو توسيع رقعة بلاد كل منهما، فتعاهدا على السير معًا في سياسة مشتركة. ويبدو أن محمد علي باشا قد أخذ قرار التصدي للباب العالي، بعد التيقن من قوة جيشه، ورؤيته لحالة التدهور والتفكك التي تعانيها الدولة العثمانية حتي صارت محط أنظار ومؤامرات الدول الأوروبية، إضافة لشعوره أن الباب العالي قد ظلمه عندما منعه من ولاية الشام، على الرغم من أدائه خدمات جليلة للسلطنة، وإيقانه أنه أصلح من يتولى ولاية الشام.

   إفتعل محمد علي خلافًا مع والي عكا إذ طالبه بإعادة المال الذي كان قد قدّمه إليه، وإعادة الفلاحين المصريين الفارّين من التجنيد أو دفع الضرائب عن الخدمة الزراعة المستحقة عليهم، ولمّا ماطل عبد الله باشا في تلبية طلبه إضافة لرفضه المساهمة في جهود محمد علي الحربية، اتخذ ذلك ذريعة لاحتلال أراضي الشام. زحف الجيش المصري باتجاه فلسطين في 14 أكتوبر 1831م تحت قيادة إبراهيم باشا وسيطر على مدنها من دون مقاومة تُذكر، باستثناء عكا التي ضرب عليها حصارا مركزًا برًا وبحرًا حتى لا يأتيها المدد بحرًا فلا يقوى على فتحها، وبينما كانت تقاوم حصار إبراهيم باشا، كان أبناء الأمير بشير، ومعهم جنود مصريون، يسيطرون على صور وصيدا وبيروت وجبيل، ولما استعصت عليهم طرابلس أسرع إبراهيم باشا لنجدة حلفائه، ولم تلبث أن سقطت في أيديهم.

   اضطربت الدولة العثمانية أمام زحف الجيش المصري، واعتبرت ذلك عصيانًا وقامت للتصدي له. واصطدم جيش عثماني بقيادة عثمان باشا والي حلب بالجيش المصري في سهل الزرّاعة جنوب حمص إلا أنه انهوم أمامه. ثم عاد إبراهيم باشا إلى عكا لمواصلة حصارها فدخلها عنوة في 28 مايو1832م، وأسر عبد الله باشا وأرسله إلى مصر. وتابع القائد المصري زحفه باتجاه الشمال بعد سيطرته على عكا، فدخل دمشق مع الأمير بشير وجيشه بعد أن قاتلا والي المدينة، ورحّب السكان به لأنهم كانوا أقرب إلى الرغبة في تغيير حكامهم بفعل مساوئ الولاة العثمانيين. جزع الباب العالي لسقوط عكا ودمشق وسيطرة المصريين على جنوب الشام، وخشي السلطان أن يتزعزع مركزه أمام انتصاراتهم، فحشد جيشًا آخر بقيادة السرعسكر حسين باشا ودفعه لوقف الجيش المصري، وإجبار المصريين على الانسحاب من بلاد الشام، وأصدر فرمانا بإعلان خيانة محمد علي باشا وابنه إبراهيم للسلطة الشرعية.

   اصطدم إبراهيم باشا بالجيش العثماني الجديد في معركة حمص وتغلّب عليه في 29 يونيو 1832م وسيطر على حماة ودخل حلب وتأهب لاستمرار الزحف للشمال. انسحب حسين باشا شمالاً بعد خسارته، وتمركز في ممر بيلان وهو أحد الممرات الفاصلة بين بلاد الشام والأناضول، فلحقه إبراهيم باشا واصطدم به وتغلّب عليه وطارد مع من بقي من جيشه حتى اضطرهم إلى مغادرة المنطقة عن طريق ميناء الاسكندرونة وسيطر على الممر واحتل ميناء إياس شمال الاسكندرونة ودخل ولاية أضنة وطرسوس. كان نجاح إبراهيم باشا الساحق يعزى إلى التنظيم العسكري الأوروبي الحديث، كما كان ضباطه يتمتعون بخبرة أكثر بكثير من نظرائهم العثمانيين، التي اكتسبوها من وطأة القتال في آخر حربين كبيرتين في الإمبراطورية ضد التمردين الوهابيين واليونانيين، وجذب إبراهيم دعمًا محليًا كبيرًا لقضيته من خلال وصف حملته بأنها "من أجل التحرر من نير الأتراك".

   شجعت هزيمة العثمانيين إبراهيم باشا على مواصلة طريقه، فتقدم في داخل بلاد الأناضول حتى بلغ مدينة قونية، وكان العثمانيون قد تجمعوا ليدافعوا عن قلب السلطنة، في 21 نوفمبر 1832م، احتلت القوات المصرية مدينة قونية في وسط الأناضول، على مسافة قريبة من العاصمة القسطنطينية. نظّم السلطان جيشًا جديدًا قوامه 80,000 رجل تحت قيادة الصدر الأعظم رشيد باشا، في محاولة أخيرة لمنع تقدم إبراهيم نحو العاصمة. بينما قاد إبراهيم باشا قوة قوامها 50000 رجل، تم نشر معظمهم على طول خطوط إمداده من القاهرة ، وكان لديه 15000 فقط في قونية. عندما بدأت المعركة في 21 ديسمبر، حققت قوات إبراهيم باشا انتصارا كبيرا، وأسرت الصدر الأعظم بعد أن تاه في الضباب وهو يحاول حشد الجناح الأيسر المنهار. كانت خسائر المصريين 792 ضحية فقط، مقارنةً بثلاثة آلاف قتيل في الجيش العثماني، كما استولوا على 46 من بين 100 بندقية أتى بها الجيش من اسطنبول. كان ذلك النصر الكبير في قونية هو النصر الأخير والأكثر إثارة للإعجاب في الحملة المصرية ضد مقر الباب العالي، ومثل ذروة قوة محمد علي في المنطقة.

   بهذه الغلبة انفتحت الطريق أمامه إلى الأستانة، حتى خُيّل للعالم في ذلك الوقت أن نهاية السلطنة العثمانية أصبحت قريبة. عقب هزيمة قونية ساد القلق عاصمة الخلافة، وارتعدت فرائص السلطان الذي خشي من تقدم إبراهيم باشا نحو العاصمة، فاستنجد بالدول الأوروبية للوقوف في وجه الخطر الداهم فلم ينجده أحد، حيث كانت بريطانيا منهمكة في شؤونها الداخلية وبالمسألة البلجيكية، وفرنسا تؤيد محمد علي وتتعاون معه، فقد كان في جيشه عدد من القادة الفرنسيين، ووقفت كل من النمسا وبروسيا على الحياد. 

أرسلت روسيا عام 1833م أسطولا بحريا إلى الأستانة للدفاع عنها ولم تكد بريطانيا وفرنسا تطلعان على وجود السفن الروسية في مياه الأستانة حتى هالهما الأمر وشعرتا بالخطر الروسي عليهما، وخشيتا أن تستغل روسيا تداعي الدولة العثمانية لتقوّي مركزها في الممرات البحرية، فسارعتا إلى عرض مساعدتهما على السلطان فيما إذا تخلّى عن المساعدة الروسية. ولكن الروس رفضوا إجلاء سفنهم إلا بعد أن ينسحب المصريون من الأناضول. عندئذ نشط ممثلو بريطانيا وفرنسا في التوسط بين السلطان ومحمد علي، حتى تم تبادل الرسائل بينهما.