كمال زاخر
14 ـ وليمة عشاء الرب مساء الخميس

هل كانت هى وليمة الفصح'> الفصح؟
هل كان التقديس بالخبز المختمر .... أم الفطير؟


يجد القارئ نفسه فى هذا الفصل أمام طرح نموذجى لقضية كانت محل جدل شغل الكنيسة، وتجدد فى عقود القرن العشرين الأخيرة، واختطفه البعض إلى دائرة اتهامات الهرطقة ـ هكذا ـ بين من قال بأن المسيح صنع وليمة العشاء فى نفس يوم الفصح'> الفصح، وبين من قال بأنه فى اليوم السابق له.

والكاتب هنا يتبع المنهج الأرثوذكسى فى التحليل، فيستحضر بهدوء مصادر التعليم المعتمدة فى الكنيسة وعمودها الفقرى ممارسات وحياة الكيسة الأولى التى تأسست يوم الخمسين منذ حلول الروح القدس. وما سجلته الأناجيل والرسائل "كبراهين كتابية"، ثم يناقش ما يطرحه البعض مخالفاً لرؤية الكنيسة مستندين على قول الكتاب "فأعدا الفصح'> الفصح" (مر 14 : 16)، وقول الرب "شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح'> الفصح معكم قبل أن أتألم" (لو 22 : 15). ثم يسوق عدداً من "البراهين التى تثبت صحة التقليد الأرثوذكسى"، ويختتم طرحه الوثائقى بما ورد فى أقوال الآباء المؤكدة لتوقيت عشاء الخميس قبل الفصح'> الفصح. لينتهى إلى أنه بينما يصنع الفصح'> الفصح كان "فصحنا ايضا المسيح قد ذبح لاجلنا." (1كو 5 : 7).

اللافت كما يؤكد الكاتب هو اتفاق العائلتين الأرثوذكسيتين (الخلقيدونية واللاخلقيدونية) على القول "بأنه بموجب التقليد المسلم لها من الرسل، تقدس على خبز مختمر منذ القرن الأول مع إيمانها إيماناً راسخاً أن الرب أسس سر الإفخارستيا فى اليوم السابق للفصح، وكات وليمته تسمى وليمة قداس الفصح'> الفصح، لأن الكنيسة تؤمن عن يقين تقليدى وكتابى أن الرب صلب يوم الفصح'> الفصح فى ميعاد ذبح الخروف فصار بذلك هو الفصح'> الفصح المسيحى الجديد: (هذا هو حمل الله الذى يرفع خطية العالم) (يو29:1).

ويستعرض الكاتب ما سجله القديس يوحنا فى انجيله والذى يؤكد أن وليمة العشاء كانت قبل القصح بيوم ، وأن احداث المحاكمة والصلب جرت فى اليوم الذى سيذبح فيه الفصح'> الفصح مساءً أى يوم الجمعة.

"ثم إذ كان استعداد، فلكى لا تبقى الأجساد على الصليب (بعد غروب الشمس، أى عند بدء يوم آخر) فى السبت، لأن يوم ذلك السبت كان عظيماً، سأل اليهود بيلاطس أن تُكسر سيقانهم ويُرفعوا" (يو 19 : 31).

ويعلق الكاتب موضحاً "من هذه الآية يتبين لنا من قول يوحنا الرسول أن (ذلك السبت كان عظيماً)، أن يوم السبت (الذى يبدأ بعد غروب الشمس) كان هو عيد الفصح'> الفصح، فالسبت الوحيد الذى يُدعى عظيماً هو السبت الذى يقع فيه عيد الفصح'> الفصح."

ويستطرد "إذاً، فالسيد المسيح صُلب قبل غروب الشمس، أى قبل بدء يوم السبت، أى يوم الجمعة، وبذلك يكون عشاء الرب يوم الخميس قبل الفصح'> الفصح بيوم كامل."

ويفحص الكاتب ما جاء مؤيداً فى الأناجيل الإزائية الثلاثة (مرقس ومتى ولوقا) معتمداً على الأصل العبري لها، لنكتشف معه أن تعبير (اليوم الأول من الفطير) معناها الحرفى (يوم قبل الفصح'> الفصح). وينتهى إلى أن "قراءة الأناجيل الثلاثة متفقة مع قراءة إنجيل يوحنا، إذ يكون المعنى (وقبل يوم الفطير) الذى يُذبح فيه الفصح'> الفصح، هو اليوم الذى قبل الفصح'> الفصح وقبل خبيز الفطير، حيث الجملة الموصلة هنا (الذى يُذبح فيه الفصح'> الفصح) لا تعود إلى أول يوم من عيد الفطير بل إلى اليوم الذى يُنزع فيه الخمير ويُخبز الفطير. وبذلك يكون الكلام واضحاً جداً : أن الرسول يشير إلى اليوم الذى قبل الفصح'> الفصح فعلاً: أى قبل يوم الجمعة 14 / 15 نيسان، وهو يوم الخميس 13 / 14 نيسان، بحسب إنجيل يوحنا".

ثم يفرد الكاتب صفحاته للرد على القول "فأعدا الفصح'> الفصح" التى جاءت فى انجيل مرقس "أين تريد أن نمضى ونعد لتأكل الفصح'> الفصح ... فأعدا الفصح'> الفصح" فيوضح "الإعداد للفصح بمعنى الاستعداد ليوم الفصح'> الفصح، لأن أموراً كثيرة ينبغى أن تُرتب قبل ذلك اليوم. لأن الإعداد للفصح عملية معقدة عند اليهود، ويستحيل أن تتم فى نصف نهار. أو كيف يسافر بطرس ويوحنا من بيت عنيا إلى أورشليم ويبحثا عن بيت مرقس، ثم فى نفس الصباح يقومان بشراء الخروف الذى يتحتم أن يذبح فى الهيكل، ثم يقومان بعملية تنظيفه وشيِّه فى فرن خاص بشروط خاصة، لأن الطقس يحتم أن يشوى الخروف صحيحاً بأكمله حتى جوفه وأكارعه، وذلك بأن تخترق عصا رمان من الفم ختى المخرج ويصير شيُّه دون أن يلامس تراب الفرن، مع مطالب العيد الأخرى من أعشاب مُرَّة وأطباق مأكولات يحتمها الطقس؟.

ويواصل الكاتب موضحاً "إن كلمة (وأعدا الفصح'> الفصح) هى فى الواقع طقسية، وتُفيد الإنتهاء من الترتيبات الخاصة بيوم "الاستعداد للفصح" حيث تتم فى كل ساعة من ساعاته عملية معينة. لذلك فإن كلمة "أعدا" الفصح'> الفصح لا تعنى أنهما ذبحا الخروف وهيَّآه للأكل فى ساعة من الزمان ....وإنما تعنى أنهما أكملا الترتيبات اللازمة للفصح لأن يوم الخميس هو فى الواقع بداية "يوم الاستعداد الكبير" للفصح الذى هو يوم الجمعة ....

ثم يتناول الكاتب معنى مقولة الرب يسوع "شهوة إشتهيت أن آكل هذا الفصح'> الفصح معكم قبل أن أتألم" والمذكورة فى انجيل لوقا (22 : 15) فيقول "معلوم يقيناً أن المسيح لا يشتهى أكلاً ولا يشتهى عيداً، ولكنه كان يشتهى منذ البدء وقبل أن يتجسد، أن يؤسس فصحاً جديداً. (هذا الفصح'> الفصح) يكون الأكل والشرب منه أكلاً وشرباً حقيقياً (أليثوس) (جسدى مأكل حق ودمى مشرب حق ـ يو55:6) حيث كلمة حقيقى هنا تفيد أكلاً وشرباً إلهياً من خلال أكل وشرب مادى."

ويواصل "وهذا هو مضمون السر فى عشاء الرب الذى أصبح به (هذا العشاء) (فصحاً حقيقياً) جديراً بأن يُشتهى بالحقيقة، حيث صار الخبز والخمر لحم ودم حمل الله، فصح الدهور والأبدية، الذى يرفع خطية العالم."

يعود الكاتب ليؤكد أن "عشاء الرب لم يكن فصحاً يهودياً، وأن المسيح صُلب فى ميعاد ذبح الخروف"
ـ فطير الفصح'> الفصح ـ بحسب الكتاب ـ يمثل خبز الشقاء، خبز عناء لأنه رفع من المعجنة قبل أن يختمر أو قبل أن توضع فيه خميرة بسبب السرعة والعجلة للخلاص من العبودية والشفاء (تث 16 : 3)، لكن ونحن فى الإفخارستيا، الفصح'> الفصح الحقيقى، لا نأكل خبز عناء بل خبز "البركة"، الخبز الحى النازل من السماء، فجسد المسيح لا يمكن أكله على هيئة فطير، أى خبز عناء، لأنه ليس أرضى بل هو سماوى، ومؤدٍّ إلى السماء، فهو خبز الراحة الحقيقية "خبز البركة والشكر"، لذلك فإن موقف الطقس الأرثوذكسى من وليمة الفصح'> الفصح اليهودى موقف سليم، إذ لم يجعلها منطلقاً ولا أساساً للإفخارستيا، لأنه كيف يُعلن الجسد المقدس فى خبز عناء وشقاء؟.

ـ مرقس الرسول يقول فى إنجيله "أخذ يسوع خبزاً وبارك وكسر"(مر 22:14) ولم يقل "أخذ فطيراً"، وهو ما استقر فى الكنيسة القبطية بحسب التقليد المسلّم بيد مرقس الرسول نفسه.

ـ الإفخارستيا، كما ظهرت فى أول صورة لها فى الكنيسة الأولى فى سفر الأعمال، ظهرت باستخدام الخبز لا الفطير، دون أى إشارة إلى طقس الفصح'> الفصح "وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة والصلوات" (أع 43:2)، وهذه الآية كلها تصوير لخدمة قداس كامل. فالتعليم أولاً، ثم الاجتماع معاً حول المائدة (الشركة هنا كلمة طقسية "كينونيا")، وكسر الخبز (تعبير سفر الأعمال عن سر الإفخارستيا)، والصلوات (أى تلك التى تتلى بعد التناول).

وينتهى الكاتب إلى أنه "لو كانت الإفخارستيا التى أسسها الرب من خلال طقس الفصح'> الفصح أو انطباقاً عليه، لكانت إقامتها تستلزم دائماً خبز الفطير، كما وكان يتحتم أن يأخذ صورة سنوية، أو لكان زمن إقامتها السنوى يعتبر أساساً. ولكن الواقع أن تكرار إقامة الإفخارستيا فى الكنيسة الأولى منذ أول يوم كان على الخبز، وبدوت أى قيد زمنى، وفى أى وقت من النهار (وهذا مهم للغاية)، هذا كله يشير إلى أن تأسييسها كان حراً من أى طقس سابق، وأنها كانت من خلال وليمة شركة ومحبة حرة غير مرتبطة بطقس الفصح'> الفصح اليهودى."

ويسترسل الكاتب فى تحليل ما حدث بالوليمة من طقوس كما سجلها الإنجيليين الأربعة بما يؤكد أنها لم تكن وليمة فصح.، وأن الإفخارستيا التى كانت تقيمها الكنيسة الأولى لم تكن تكراراً للولائم العادية التى كان يقيمها المسيح مع تلاميذه وأنها لم تكن تكراراً للعشاء الأخير، لأن الكنيسة تؤمن بإفخارستيا واحدة، أقيمت مرة، وهى هى التى تقام كل مرة، لأن الذى يقيمها هو المسيح وبحضور تلاميذه وملائكته وقديسيه مع شعب كل كنيسة

فحضور الرب فى كل إفخارستيا، وكون كل إفخارستيا هى نفس جسد المسيح ودمه، ينهى على كل ثنائية فى شكل الإفخارستيا وجوهرها.

ـ ويعقد الكاتب مقارنة دقيقة ومطولة بين أوصاف "عشاء الرب" كما جاءت فى الأناجيل وفى رسالة كورنثوس الأولى، وأوصاف طقس الفصح'> الفصح اليهودى كما جاء فى العهد القديم وفى كل كتب اليهود الطقسية، تنتهى إلى تأكيد أن عشاء الرب لا يمكن أن تتطابق مع وليمة الفصح'> الفصح.

ـ عشاء الخميس قبل الفصح'> الفصح فى أقوال آباء الكنيسة
يختتم الكاتب جولته هذه باستدعاء أقوال الآباء التى تؤكد دفوعه السابقة، وخاصة اباء القرون الأولى؛ القديس يوستينوس الشهيد (100 ـ 165م)، القديس أبوليناريوس (165م)، العلَّامة هيبوليتوس اسقف روما (170 ـ 236م)، القديس أناتوليس أسقف لادوكية (تنيح سنة 282م)، القديس بطرس خاتم الشهداء بابا الإسكندرية الـ 17 (300 ـ 311م)،القديس اثناسيوس الرسولى بابا الإسكندرية الـ 20 (295 ـ 373م).

ثم يضيف إليهم ما توصلت إليه دراسات وأبحاث علماء الفلك فى جامعة اكسفورد (البروفيسور كولن ج. همفرى، العالم و, جرايم وادينجتون، "وقال هذان العالمان أنه بمراجعة الحسبات الفلكية فإن المرة الوحيدة التى رُئى فيها خسوف للقمر فى منطقة أورشليموفى الفترة ما بين عامى 26 ـ 36م (وهى المدة التى من المؤكد أن يكون المسيح صُلب خلالها) كانت يوم الجمعة 3 أبريل عام 33م. ويذكر الإنجيل أن المسيح بدأ خدمته وهو فى عمر 30 سنة وأن خدمته حتى الصليب استمرت 3 سنوات ونصف.

وقد أعلنا بأن عملية الصلب تمت فى يوم عيد الفصح'> الفصح عند اليهود أو اليوم السابق لهذا اليوم الذى كان ينبغى فيه على اليهود بحسب طقوسهم أن يذبحوا خروف الفصح'> الفصح. وهذا يتفق مع إيمان الكنيسة بأن المسيح كان هو الفصح'> الفصح الحقيقى الذى سيُكفّر حقاً عن خطايا البشرية.

وفى الوقت نفسه أعلن هذان العالمان أن العشاء الأخير للمسيح مع تلاميذه كان وليمة من ولائم الفصح'> الفصح فى الليلة التى تسبق عادةً الليلة التى يأكل فيها اليهود خروف الفصح'> الفصح.