إكرام لمعي

مصطلح الاختيار هو مصطلح فى منتهى الأهمية من الناحية الفقهية البحتة وأيضا من الناحية الإنسانية العامة فمنذ وجود الإنسان على الأرض وهذا السؤال يشغل الإنسان هل هو مسير أم مخير؟! إذا كان الله قد خلق الإنسان على صورته بمعنى أنه يمتلك العقل الذى يفكر به والإرادة التى يحقق بها ما يفكر فيه ويقرره، والفارق بينه وبين الله هو كمال الله.
 
فالله كامل فى فكره وقدرته أما الإنسان فهو نسبى محدود الفكر والإرادة والعمر والقدرة، وعلى طول التاريخ الإنسانى كان هذا السؤال السهل فى منطوقه والصعب فى فهمه وتحقيقه مثار حوار حقيقى بين الإنسان والله من خلال الأنبياء وبين الإنسان وأخيه فى الإنسانية. اختار الله أنبياءه ووضع فى فمهم نبوءاته، وقد تعددت النبوءات بتعدد الأزمان والحضارات منذ آدم وحتى يومنا هذا، وهناك أنبياء جاءوا لشعوب بعينها مثل أنبياء إسرائيل الذين أعلنوا أيضا أن شعب إسرائيل هو شعب الله المختار أى الشعب الذى اختاره الله من بين شعوب العالم ليحقق بهم مشيئته ولذلك فهم لا يجب أن يختلطوا مع أى شعوب أخرى لأن الوعود لهم ولأولادهم وكذلك المواعيد بالأرض المقدسة التى اختارها الله لهم. ولقد كان آخر نبى من سلسلة أنبياء إسرائيل يوحنا المعمدان (يحيى بن زكريا) وبعد ذلك صارت دعوة الله متاحة لكل بشر فليس هناك تقسيم بين يهود وأمم ولا عبد وحر ولا ذكر وأنثى ولا هناك أرض مقدسة لشعب مقدس مختار فالكل أصبح متساويا أمام الله. لذلك إذا كان الإنسان قد خلق حرا وقد وهبه الله عقلا إذا فهو مسئول عن اختياراته أمام الله والناس، من هنا جاء عنوان المسلسل(الاختيار). لكننا نحن لا نفهم أو نستوعب مصطلح الاختيار ولا فلسفته فى أى حرب من الحروب بين بلدين من بلاد العالم أو بين شعب واحد ينقسم إلى قسمين دون استيعاب الخلفية التاريخية والسياسية والدينية التى أدت إلى حتمية الاختيار وإدانة الوقوف على الحياد، وهذه هى الحالة التى يناقشها المسلسل الذى نحن بصدده، حيث جاء الاختيار فى المسلسل بين تفسيرين مختلفين لنصوص مقدسة؛ وكنت أفضّل أن يكون الاختيار بين الوطن والتفسير الصحيح للدين من جانب وبين خيانة الوطن والتفسير الخاطئ للدين من الجانب الآخر، والسؤال لماذا أفضّل هذا الاتجاه؟! وإجابتى لها شقان: الأول أن مصر وجدت قبل الأديان جميعا فهى وطن عريق له جذوره الممتدة وحضارته من أقدم الحضارات ويعترف بها العالم كله ويعظمها ويجلها، وكل أبناء مصر يفخرون بحضارتهم الممتدة، بينما الذين يحاربوننا حضارتهم إما أفغانية (القاعدة) أو (داعشية) والحضارة العربية الأصيلة تبرأت منهم.
***
من هنا كان يجب أن يكون الاعتماد فى قصة المسلسل على فكرة الاختيار بين مصر كوطن وحضارة عظيمة مع التفسير الصحيح للدين من ناحية وبين أعداء مصر الذين يحملون حضارة أفغانية وتركية وداعشية مع تفسير خاطئ للدين من الناحية الأخرى، لكن الاعتماد على مجرد اختلاف فى التفسير الدينى فقد كان ضعيفا ومهزوزا. ذلك لأن إحدى القواعد الأساسية فى تفسير الكتب المقدسة هو أن «النص الدينى حمال أوجه» وتأكيدا على ذلك أن اثنين من المحترفين فى الجيش المصرى وصلا لرتب عليا فيه أحدهما (عقيد) اقتنع بالرأى الآخر أو التفسير المضاد لنفس الآيات. هذا فضلا عن أن جنود الجيش المصرى دخلوا الجيش إلزاما، وليس اختيارا بينما التكفيريون اختيارا. من هنا كان يجب أن تكون محاضرات التوعية هى إقناع الشباب بأنهم أتوا باختيارهم، لأنهم يحبون مصر بلدهم ويريدونه حرا، وأن يؤمنوا أن التجنيد عقيدة وواجب وطنى يمر من خلاله كل مصرى للدفاع المقدس عن الوطن الذى ولد فيه ويرعاه منذ ولادته حتى وفاته، فهو هنا يعطى الإنسان بعدا آخر لمفهوم التجنيد والاستشهاد، كنت أنتظر محاضرات فى هذا الاتجاه: لماذا التجنيد إجباريا؟ لماذا لا يكون اختياريا؟ مع أسئلة عن علاقتنا بالوطن ومدى قدسيته فالدفاع عنه دفاع عن العرض والمقدسات والتاريخ وواجب مقدس لكل من ولد فيه وتربى وتعلم تحت ظله، وهل علاقة المصرى بمصر كابن لها أو غير ذلك... إلخ، هذه الأسئلة الوجودية أفضل كثيرا من الحديث فى الدين فقط والذى له تفسيرات عدة ومتعددة، ثم إن التورط فى مناقشة فقه ابن تيمية كان أضعف ما فى المسلسل، لأن فتاوى ابن تيمية بالرغم أنها كانت عن المغول الذين اجتاحوا العراق فى ذلك الوقت، فإن له أيضا فتاوى بعيدة عن المغول تدمر حقوق الإنسان سواء كان مغوليا أو غير ذلك. ثم فى مسلسل كهذا ابن تيمية ليس هو موضوعنا.
***
«إن مصير الوطن لا يتوقف على خلاف دينى أو خلاف فقهى بين أتباع دين بعينه»، وهذه الجملة كانت هى السائدة فى مصر على طول تاريخها ولم تدمر إلا بعد ظهور الإخوان، فهل الجيش المصرى والمثقفون المصريون هم رد فعل لاستراتيجية الإخوان أم ينبغى أن يكون العكس؟!
فى رأيى كان يجب أن تكون القضية فى المسلسل هى «الوطن» وهناك أدبيات إسلامية ضخمة فى ذلك من أهمها تعلق الرسول بمكة والجزيرة العربية وماذا قال يوم هجرته وهو ضعيف كإنسان يبكى لثانى اثنين فى الغار. ثم عودته إلى مكة منتصرا قويا وبكاؤه وإجابته عندما سألوه ماذا سيفعل بهم؟، وكانت الإجابة من منطق القوة والنصرة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» هذه هى القضية، وهذه هى الأحداث التى لا اجتهاد فيها ولا اختلاف عليها، إنها واضحة كالشمس لكل ذى عينين.
 
واضح جدا فى الفقه الإسلامى الفارق بين فقه الوطن وفقه الدين.
 
بالطبع هناك اتصال ما لكن كيف يأتى المجند للخدمة الوطنية ثم نقنعه دينيا أنهم يحاربون العدو، ألا يوجد فى التاريخ على امتداده الزمنى واتساعه الأفقى ما يسمى «فقه الوطن» الارتباط بالوطن المقدس، ألا يوجد فى تراثنا «عواد باع أرضه يا ولاد على طوله وعرضه يا ولاد» وأليس هشام عشماوى والآخرون من المصريين الذين باعوا الأرض أى باعوا العرض. لأن الذى يبيع أرضه يبيع عرضه وهذا الأمر ليس فيه اجتهادات أو آراء مختلفة، إن الذين باعوا الأرض والعرض (باعوا أنفسهم) وهم الإرهابيون سواء من مصر أو ليبيا أو العراق، هؤلاء باعوا وطنهم بادعاء حرب دينية، لقد خانوا الوطن وتركهم لوطنهم خيانة للدين بشكل عام ولا يحتاج هذا إلى تفسير أو استشهادات.
 
قصة مسلسل مثل هذا كان لا يجب أن يترك للتقنيين المحترفين، كان يجب استدعاء مثقفى مصر الذين ما زالوا على قيد الحياة وعلى رأسهم جابر عصفور وحسن حنفى ومصطفى الفقى وعبدالمنعم سعيد ونبيل عبدالفتاح... إلخ.
 
مسلسل مثل هذا أهم كثيرا من أن ينتج فى شهرين أو ثلاثة، كان على المؤلف والمخرج أن يرجعا لأفلام مثل جيفارا وشخصيات مثل جول جمال وعاطف السادات... إلخ وغيرهم أعتقد أن الرئيس السيسى كان سعيدا جدا بفكرة المسلسل خاصة وهو يحس بمدى مقاومة أفكاره للإصلاح من بعض المؤسسات والقيادات الدينية، وقد عبر عن ذلك كثيرا فى كلامه. بالطبع المسلسل به لمسات إنسانية رائعة مثل أم الشهيد وزوجته ووالد الشهيد وأولاده، كذلك علاقته بزملائه وجنوده وخطاب زوجة الشهيد أمام الرئيس كان أكثر من رائع، لأن الزوجة واضح أنها مثقفة ومتحدثة لبقة وقادرة على مواجهة الجماهير، إن الخطاب فى مواجهة الرئيس والقيادات يحتاج إلى أعصاب من حديد، لقد كانت الحلقة بعد الأخيرة متميزة لأنها واقعية وحية.