سعيد شعيب
لم تكن المرة الأولى التى أتلقى فيها، بشكل مباشر أو غير مباشر، دعوة لما يسمونه «الحوار الوطنى»، الذى يضعون فى واجهته شخصيات غير إخوانية، مثل أيمن نور. فهذا النشاط المحموم مستمر منذ فترة طويلة، كما لم تكن المرة الأولى التى تتم دعوتى فيها لنشاط سياسى ما، يكون فى قلبه الإخوان، فهم المحرك الرئيسى، وهم أيضًا الممول الرئيسى سواء مباشرة أو عبر تركيا وقطر.

من دعانى هذه المرة للحوار أحترمه وأقدره، وإن كنت أختلف معه كثيرًا. تشاركنا فى أعقاب ثورة يناير المجيدة فى إحدى الندوات فى القاهرة'> القاهرة، وإن كنا نعرف بعضنا البعض عبر الكتابة منذ سنوات طويلة.

الدعوة وجهها أيمن نور لىّ عبر هذا الوسيط، وليست مباشرة من الإخوان، ربما لمعرفتهم موقفى منهم، فأنا ضدهم منذ سنوات طويلة، كتبت وقلت وحذرت كثيرًا من خطورتهم على مصر وعلى الإنسانية. ربما لذلك أكد أيمن، فى رسالته عبر الوسيط، أن هناك جلسات حوار، عبر سكايب، للنقاش، وبعدها حوارات مباشرة فى إسطنبول «تركيا» بعيدًا عن الإخوان، وسوف يشارك فيها شباب ليبرالى «رائع» من الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية، كل ذلك للخروج بوثيقة عمل وشكل لمستقبل مصر.

وأضاف أيمن نور، فى رسالته: «علينا استرداد البلاد، لقد استغل النظام حالة الفرقة والخلافات بين النخب والكيانات السياسية، واستفرد بكل جماعة أو فصيل على حدة، وذلك للإجهاز على كل المعارضة إن كانت فى الداخل أو الخارج».

هذا الوسيط، الذى أحترمه أكد مرارًا وتكرارًا، عبر الرسالة، وعبر الاتصال التليفونى الذى تناقشنا فيه كثيرًا، أنه يختلف مع الإخوان والتيار الإسلامى السياسى، وأيضًا مع اليسار القومى والقوميين العرب، لكن علينا «استرداد البلاد».

وقال أيمن نور: «بعد السنوات العجاف من الخلافات، علينا أن ننحيها ونجلس سويًا، دون شروط، لنضع تصورًا عن كيفية مجابهة النظام بالطرق السلمية».

كما قلت فهذه ليست المرة الأولى، وبشكل عام التواصل مع الإخوان وأحبائهم سهل وبسيط، كل ما عليك أن تفعله هو أن تلعن ليل نهار خصومهم بالحق وبالباطل، وبالطبع لا تنتقد قطر ولا تركيا، وإن كان يمكن أن تنتقد الإخوان قليلًا، «شوية» انتقاد لبعض السلوكيات، لكن لا تقترب من أيديولوجيتهم الإرهابية أو تعاونهم مع تنظيمات إرهابية أو نشرهم الإرهاب فى العالم، إذا فعلت كل ذلك سوف «يستكتبوك» بمقابل مالى معقول، ويمكن أن يُضاف عليه برنامج تليفزيونى أو «اتنين».

لكن إذا خالفت هذه الشروط فلن يسمحوا لك بالطبع. دعونى لكتابة مقالات فى موقع «الجزيرة» واحتفلوا بى على الموقع، حتى يكون المظهر ديمقراطيًا، أى أنهم يقبلون بوجود آراء حتى من خصومهم الأشداء، وقبل أن أتوقف كنت أكتب مذكراتى فى حلقات، لكن لم يكن هذا هو المطلوب، وفى فترة كتابتى معهم لم أتوقف عن نقدهم بالعربية والإنجليزية، وأصدرت كتابين بالإنجليزية ضدهم، وبالطبع لم يتحمل الإخوان، الذين يصدعون رءوسنا ليل نهار بأنهم مؤمنون بالحرية.

أما إذا كنت تعيش فى الغرب، فسوف تصبح من «المرتاحين» ماليًا. «خد عندك مقالات هنا وهناك ولقاءات مدفوعة، ويمكن برنامج أو اتنين تنفذهم وإنت مقيم فى البلد الذى تعيش فيه فى الغرب»، وليس بالضرورة أن تذهب للعيش فى الدوحة أو لندن. إذا أسست مركز دراسات أو مركزًا حقوقيًا أو أى مركز فى البلد الذى تعيش فيه فى الغرب، تحصل على تمويلات محترمة «تخليك زى الفل»، بشرط أن تتحدث عن حقوق الإنسان فى مصر والإمارات والسعودية وكل من تكرهه قطر، دون الاقتراب من حقوق البشر فى قطر وتركيا طبعًا.

الأمثلة كثيرة والأسماء معروفة، فهناك بيزنس ضخم اسمه تأييد الإخوان وقطر وتركيا.

أتذكر أنه تمت دعوتى عام ٢٠١٣ إلى مؤتمر عن الإعلام، ينظمه مركز الجزيرة للإعلام، فقد كنت وقتها مدير مركز «صحفيون متحدون»، هذا المؤتمر حضره عدد كبير من كبار الحقوقيين من مصر ومن الدول الناطقة بالعربية، وعلى هامش هذا المؤتمر تم عقد جلسات عمل، الهدف غير المباشر منها هو الاتفاق على إصدار تقرير سنوى من مركز «الجزيرة» للإعلام عن حالة الصحافة والإعلام فى الدول الناطقة بالعربية فى الشرق الأوسط.

وبالطبع كل مركز فى مصر مثلًا سوف يرسل الانتهاكات ضد الصحافة والإعلام إلى مركز الجزيرة لكى يصدرها باسمه، والمقابل بالطبع سيكون سخيًا.
عندما سألت هل سوف يتضمن هذا التقرير السنوى حالة الصحافة والإعلام فى قطر حتى تكون له مصداقية؟.. حدث ارتباك، وارتباك أشد لدى العاملين الحاضرين من مركز «الجزيرة»، الذين أظنهم تفاجأوا بالسؤال، وفاجأهم ترحيب بعض من حضروا بالسؤال، والتأكيد على أن هذا التقرير يجب أن يتضمن قطر.

ممثلو مركز «الجزيرة» قالوا كلامًا كثيرًا من المستحيل أن تفهم منه إجابة محددة على السؤال، ويذكرك هذا بالمشهد الرائع لإسماعيل ياسين عندما سألوه ما هو عملك على السفينة؟ قال: «بالالام». وانتهى الاجتماع دون الاتفاق على إصدار هذا التقرير القطرى عن حريات الصحافة والإعلام.

وفى العشاء الفاخر الذى تمت دعوتى إليه مساء اليوم نفسه، أعاد أحد قيادات مركز «الجزيرة» فتح الأمر وقلت نفس الكلام، وعندما شعر الرجل بالحرج، اعتذرت له، وقلت إننى لا أقصده شخصيًا، له كامل الاحترام، وإننى متفهم أن هذا عمله وعليه تنفيذه، وطلبت منه أن يتفهم أنه لا يمكننى القبول، لأن هذا يدمر سمعتى وسمعة مركز «صحفيون متحدون».

بالتأكيد مركز «الجزيرة» وقتها كان يمول العديد من المراكز الحقوقية فى الدول الناطقة بالعربية فى الشرق الأوسط، كما أن هذا التقرير السنوى سيتم تمويله بسخاء.

أظن أن القارئ الكريم ربما يتذكر أن قطر أسست «المؤسسة العربية للديمقراطية» بعد ثورة يناير بتمويل سخى، لكى تنتقد بالطبع الأوضاع غير الديمقراطية فى الدول التى تكرهها قطر، وتصمت بالطبع عن «الديكتاتورية فى قطر»، بل وكان المطلوب هو أن تمدح قطر وتدافع عنها، وقد فعلت بإخلاص أسماء كبيرة كانت جزءًا من هذه المؤسسة.

نعود إلى السؤال: هل يمكن أن أشارك أنا وغيرى فى حوار مع الإخوان؟

بالقطع لا.. لماذا؟
أولًا هذه ليست المرة الأولى التى تتم الدعوة فيها للتحالف مع الإخوان، فقد حدث قبل ثورة يناير المجيدة، أن تحالف أغلب قوى معارضة «مبارك» مع الإخوان لسنوات وسنوات، أفسحوا لهم المجال العام، وأطلقوا عليهم وقتها «فصيل وطنى»، وكيدًا فى مبارك ونظامه فتحوا صحفهم وقنواتهم للإخوان، بل وتحالفوا حزبيًا معهم، مثلما فعل حزب الوفد الليبرالى، الذى تحالف معهم فى الانتخابات البرلمانية عام ١٩٨٤، وأعاد الحزب الليبرالى فى عام ٢٠١١، التحالف مجددًا تحت يافطة «التحالف الديمقراطى من أجل مصر».

حزب العمل الاشتراكى، برئاسة إبراهيم شكرى، تحالف معهم عام ١٩٨٧، وابتلع الإخوان الحزب والجريدة، ليصبح اسم الحزب «حزب العمل» فقط دون اشتراكى، بل وكانوا يلصقون به كلمة «إسلامى».

ماذا كانت النتيجة؟
ليست هناك مشكلة بالتأكيد فى معارضة سلمية لمبارك أو غيره، فهذا حق مشروع لا خلاف عليه. فهذه هى الطريقة الوحيدة لتطور مصر فى كل المجالات، لكن الخطيئة الكبرى التى وقع فيها أغلب معارضى مبارك هى أنها كانت تمهد الطريق لاستيلاء الإخوان على البلد وهو ما حدث بعد ثورة يناير المجيدة.

لقد امتنعوا تمامًا عن انتقاد الإخوان وهم فاشية دينية، يقولون فى أدبياتهم بوضوح، لا لبس فيه، إن مشروعهم هو تأسيس دولة دينية أقرب إلى نظام الملالى فى إيران. لم يقتصر الأمر على عدم الانتقاد، ولكن التواطؤ على الجرائم. ولأننى كنت طرفًا رئيسيًا فى هذه الواقعة، سوف أذكّر القارئ الكريم بالحوار الذى أجريته مع مهدى عاكف، مرشد الإخوان، عام ٢٠٠٦ الذى كشف فيه بوضوح عن مشروعهم الديكتاتورى العنصرى الدينى، وقال العبارة التى أصبحت أيقونة: «طظ فى مصر وأبومصر واللى فى مصر». فماذا فعل أغلب معارضى مبارك؟

لم ينتقدوا الإخوان ولا جريمة مهدى عاكف، بل شنوا حملة ضارية ضدى.. وهذا أمر مضحك ومحزن فى نفس الوقت، فلست أنا من قال «طظ فى مصر»، وقال أحد من يقولون عن أنفسهم إنهم يحترمون الإخوان وقتها، إنها مجرد «شتيمة» كلنا بنقولها، وخصص صفحة كاملة فى جريدته لـ«يمسح بى البلاط» ويدافع عن عاكف الذى «شتم» البلد ووعدنا فى هذا الحوار بأنه سيخربها. هذا الكاتب يعيش الآن فى بلد غربى يتنعم بالعوائد المالية لمقالات وبرامج تليفزيونية. الخلاصة أن أغلب معارضى مبارك بدلًا من أن يرفضوا رفضًا قاطعًا ما قاله عاكف، ذبحونى لأننى نشرت الحوار!!

التحالف مع الإخوان كان انتهازية سياسية، مثلما فعل القيادى الناصرى الشهير برفضه نشر الحوار كاملًا فى جريدته «عشان الإخوان ميزعلوش»، فقد تحالف معهم لكى يصل إلى عضوية البرلمان.

كان هناك أيضًا الكثيرون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار خلقوا «تبريرات فكرية» لهذا التحالف منها مثلًا أن هناك ناصريين كتبوا كثيرًا يؤكدون أنه حان الوقت لأن يتخلى الإخوان والناصريون عن خلافهما القديم، ويقصدون به الصراع الدموى على السلطة بين عبدالناصر والإخوان.

شخصيًا وقعت فى فخ الإخوان، فقد كنت أراهن على المجددين من الإخوان وعلى رأسهم الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح. وراهنت على من خرجوا من تنظيم الإخوان مثل حزب الوسط. وكان رهانى أن هؤلاء يمكن أن يطوروا الأيديولوجيا الدينية الفاشية للإخوان، وبدلًا من أن يكون هذا التيار الإسلامى خنجرًا فى ظهر البلد يكون دافعًا لتطوره. لكنى أدركت أننى كنت مخطئًا «كان ذلك قبل ثورة يناير بكثير»، فالأساس واحد بين هؤلاء والإخوان. الفرق أن حزب الوسط وأبوالفتوح، يريدونها دولة دينية بطلاء ديمقراطى خادع.

لماذا أيديولوجيا الإخوان خطر على مصر؟
أى أيديولوجيا شمولية هى خطر بالتأكيد، لأنها تضع «كتالوج» شاملًا لحياتك، كيف تحب، تتزوج، علاقاتك مع ربك ومع العباد.. كل التفاصيل من لحظة استيقاظك من النوم حتى عودتك إليه، بل لديهم كتالوج حتى لما بعد موتك.. إذا كنت ستذهب إلى الجنة أم لا.

هذا ينطبق على هتلر كما ينطبق على الشيوعيين وكثير من تيارات اليسار، فكلهم لديه تصور كامل عن كيف تكون تفاصيل حياتك.. وغير مسموح أبدًا بأى معارضة من أى نوع، فقد ارتكبت الشيوعية مجازر لا أول لها ولا آخر فى الاتحاد السوفيتى وفى كوبا وفى كل الدول التى استولى الشيوعيون فيها على الحكم بالسلاح وحوّلوا بلدانهم إلى معتقلات جماعية بشعة. ومثلها فعل الحكام الذين رفعوا شعارات قومية مخلوطة بالدين فى الشرق الأوسط، فقد تحولت بلدانهم إلى خرابة كبيرة يعتقلون فيها شعوبهم. وتزداد هذه الشراسة إذا كانت الأيديولوجيا الشمولية تستند إلى الدين، مثل الإخوان وعموم الإسلاميين.

لذلك الإخوانى والإسلامى بشكل عام لا بد أن يكون إرهابيًا.. لماذا؟
لأن لديه إيمانًا بأن الله أمره بأن يعيد حياتك وصياغة البلد بناء على كتالوج يعتقد أنه إلهى، وأنه إذا فعل ذلك فسوف يدخل الجنة طبعًا. هذا الكتالوج الشمولى يدمر الحريات الفردية والحريات العامة. فليس لك أى حقوق من أى نوع، فلا بد أن تسير على كتالوج الإسلاميين فى كل تفاصيل حياتك، وليست هناك حريات عامة، أى ديمقراطية، وحرية رأى وتعبير وتنظيم.. إلخ. ولكى ينفذ الإخوانى ذلك عندما يستولى على الحكم، لا بد حتمًا أن يستخدم الكراهية والعنف والإرهاب، ويحوّلها إلى مقدس إلهى، فإذا اعترضت فأنت كافر، كما فعل الإخوان فى الفترة القصيرة التى حكموا فيها مصر- «الحمد لله كانت قصيرة»- فهم يؤمنون بأنهم ينفذون دولة الله على الأرض فهم ليسوا فقط حماة الإسلام ولكن حماة الله جل علاه، ولذلك طبيعى أن يستخدم العنف والكراهية والإرهاب لتحقيق ذلك، بل يؤمن بأن الله سوف يدخله الجنة بسبب هذه الجرائم، فهو يريد تنفيذ «دولة الله» على الأرض.

هذا يفسر الجرائم التى يرتكبها أردوغان ضد الأتراك «موجودة بالتفصيل فى كتابى (إسلام أردوغان)». ويفسر جرائم الإخوانى عمر البشير، الرئيس السابق للسودان. ويفسر كل الجرائم التى ارتكبها داعش والقاعدة وغيرهما، وكل الحكومات تحافظ على «طلاء إسلامى»، أو استخدام الدين فى الحكم وفى السبى والقتل وتأسيس إمبراطوريات متوحشة.

فى الشرق الأوسط، يثور الآن أغلب الشعوب ضد ما يسميه الإخوان والإسلاميون «دولة الإسلام»، ثورة عظيمة حدثت فى السودان أطاحت بالسفاح عمر البشير. ثورة فى العراق ترفض الحكمين الدينيين الشيعى والسنى. ثورة فى لبنان ترفض حكم الطوائف، بما فيها بالطبع الحكمان الدينيان الشيعى والسنى. فى إيران ثورات يتم قمعها بوحشية ضد الفاشية الدينية الشيعية، التى لا تختلف عن الفاشية السنية.

هذا الإدراك الشعبى لرفض «دولة الإسلام»، دولة الإخوان والإسلاميين يتنامى وسوف يزيد حتمًا، فلم يعد بقدرة أغلب شعوب الشرق الأوسط تحمل هذا المشروع، فهو مدمر لبلادهم وللإنسانية.

لكن، للأسف، ما زالت بعض النخب تتحالف مع هذه الفاشيات الدينية، وتحاول إقناعنا بأن هذا دفاعًا عن الحرية والديمقراطية ودفاعًا عن مصالح شعوب الشرق الأوسط. وهذه كذبة كبرى فكيف يمكننى أن أصدق أنك تدافع عن الديمقراطية والحرية، وأنك تريد مصر ديمقراطية حرة، وأنت تتحالف مع فاشية دينية ونظم ديكتاتورية مثل قطر وتركيا؟، كيف يمكننى أن أصدق أنك تفعل ذلك لبناء مصر الحرة، فى حين أنك تمهد الطريق لأن يحكمنا هؤلاء؟. عارض كما تشاء مَن تشاء، وفى هذه الحالة سوف أصدق أنك تدافع عن الحرية وأنك تريد بناء مصر الحرة.. أما أن تمهد الطريق لهؤلاء لكى يحكموا مصر مجددًا فهذا يعنى أنك كاذب وانتهازى تتحالف مع فاشية دينية من أجل مصالحك لا من أجل مصالح البلد.
باحث فى الشئون الإسلامية والمدير التنفيذى للمعهد الكندى للدراسات الإسلامية