سحر الجعارة
أتصور أن معظم المجتمعات الإسلامية، فقدت بوصلتها الحقيقية حين أصبح الفقهاء يفتون فى الطب، والأطباء يتحدثون بالفتاوى لا بالنظريات العلمية.. فاختلطت الأوراق جميعاً: أصبح الإرهاب فى قاموس «العك الفكرى» هو «الجهاد»، ولن تحصى الأرواح التى ذهبت نتيجة هذا الخطأ المتعمد من الأوصياء على الأديان إلا إذا أضفت إليه فتوى تحريم غرف العناية المركزة وفتوى تحريم نقل الأعضاء «وكلاهما منسوب للشيخ الشعراوى».. وفى المقابل أطلق بعض الأطباء لحاهم، وقرروا إجراء عمليات ختان الإناث «تشويه الأعضاء التناسلية» تنفيذاً لتعليمات عبدالحميد الأطرش، رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر.. وكذلك إجراء جراحات ترقيع «غشاء البكارة» على سبيل الستر، امتثالاً لفتوى الدكتورة «سعاد صالح»، أستاذة الفقه المقارن بكلية الدراسات الإسلامية فى جامعة الأزهر.. ولا نعرف -حتى الآن- إن كان البعض يمارس نكاح المتوفاة ووطء البهيمة طبقاً لفتوى «صبرى عبدالرؤوف»، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر!!.

آن الأوان أن نضع خطاً فاصلاً بين فوضى الفتاوى وغوغائية الكهنة من جهة، وبين الطب الذى يواجه وباء كورونا المستجد «كوفيد-19» من الجهة الأخرى.. يجب أن نوجه السؤال للمتخصص لتأتى الإجابة الصحيحة، بعد أن ثبت على مر الزمان أن توجيه السؤال للشخص الخطأ أهدر أرواحاً بالآلاف وعطل العلم طويلاً وسجن البشرية فى «جاهلية مبتكرة».. ويجب أن نتلقى الإجابة بوعى كامل حتى لا تخدعنا الألقاب: «طبيب أو عالم أزهرى.. أو عالم Freelanser».

عندما يقول الدكتور «أمجد الحداد»، رئيس مركز الحساسية والمناعة بالمصل واللقاح، أنه لا توجد أى آثار سلبية للصيام على جهاز المناعة، وذلك فى مداخلة هاتفية مع الإعلامى «عمرو أديب» فى برنامج «الحكاية»، المذاع عبر فضائية mbc مصر، سوف تصدمك كلماته وهو يشير إلى أن «المضمضة والسواك» تعمل على إفراز اللعاب.. وهنا لا بد أن تسأل الطبيب: هل ذُكر السواك فى أى دورية علمية معترف بها؟.. هل أُجريت عليه الأبحاث العلمية لنعرف جدواه فى إفراز اللعاب؟.. ولو كنت أستعمل معجون أسنان، فهل تتوقف الغدد اللعابية عن عملها؟.. ثم نعقّب بهدوء: السواك يا دكتور مصطلح دينى لطريقة بدائية لتنظيف الأسنان ولا علاقة له بالمصطلحات الطبية.. كفانا جهلاً!.

المتفق عليه منذ عشرات السنوات أن الطبيب هو من يعطى المريض «رخصة الإفطار» فى شهر رمضان، ولكن عندما يتحدث الطبيب بلهجة الكهنة.. فلا بد أن نتأمل بيان دار الإفتاء المصرية الذى تبنى فى البند الأول نظرية «الصوم يقوى جهاز المناعة» فى ظل مواجهة جائحة «كورونا» وهى نظرية لم يثبت صحتها لأن معظم المعلومات المتاحة حول علاقة الفيروس بجهاز المناعة مجهولة، باستثناء ما نعرفه من معلومات عامة متعلقة بصحة الإنسان.

فى البند الثانى: أكدت دار الإفتاء أن المصاب بالفيروس لا بد أن ينصاع لأمر الطبيب لأن: «حفظ النفس فى هذه الحالة مقدم على الصيام».. وختاماً، أكد البيان أن الأطباء وطاقم التمريض الذين يواجهون فيروس «كورونا» يجوز لهم الإفطار إذا وقع عليهم ضرر بناءً على رأى الأطباء.

إذن، ما جريمة الدكتور «سعد الدين الهلالى»، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، فى إباحة الإفطار للخائف مثلاً؟.. كل جريمته أنه رفض الوصاية على الإنسان لأن الصيام قرار فردى وشعيرة تخص الإنسان وربه، وطالب بالعودة إلى «الرشد الدينى» ليصبح دور العلماء تعليم الإنسان الفقه وتمكينه من اتخاذ قراره.. لكن يبدو أن «عبدة التراث» وحماة السنة، (ثلاثة أرباع الدين فى رأيهم)، يصدون الناس عن اتباع القرآن.. إن فكرة «الكهنوت» قائمة على أن تكون المؤسسات الدينية الرسمية «وسيطاً» بين العبد وربه، ورقيباً على اتباعه لتعاليمهم (حتى إن تناقضت مع تعاليم القرآن ذاته).. والوسيط لا يرغب فى رفع وصايته عن شعب يتصور أنه «فاقد الأهلية» لأنها مصدر نفوذه وسلطته «الرسمية» وسطوته على الرقاب. كل ما فعله «الهلالى» أنه بعد ذكر الآية، التى اختلف الفقهاء فى تفسيرها، أشار إلى أن «اختلافهم رحمة»، وقال، مع الإعلامى «عمرو أديب» إن: «الإنسان اللى عنده فوبيا، وخايف إنه لو صام يمرض، المالكية فقط قالوا لازم تصوم، الخوف لا يكفى لرفع الصوم، بينما جمهور الفقهاء قالوا الخوف يكفى، الشافعية والحنابلة والظاهرية».. إنه احتكم -إذن- إلى التراث الذى يقدسونه ويعبدونه، ولم يتعصب أو ينحاز لأى من الآراء الفقهية الأربعة.

لم يخطئ «الهلالى» فى تذكيره للناس بأن الطب نفسه، نسى أن هناك طباً نفسياً فى حالة «الفوبيا» أو الخوف، وجمال دين الإسلام فى أنه جعل التكليف الإلهى يقدره الشخص، مؤكداً أن الموسوعة الفقهية فيما يتعلق بالصوم بالنسبة للخائف من المرض له الحق أن يفطر، موضحاً أنه ليس رأيه الشخصى، وإنما رأى المذاهب الأربعة.

لكن القطيع الذى بكى تعليق العمرة وصد المصلين عن الكعبة المشرفة، والذى بالضرورة سوف يؤدى إلى تعطيل فريضة الحج، وتعليق صلاة الجماعة والتراويح، هذا القطيع سلم عقله للكاهن الأكبر.. ونسى أن الله ميزه عن باقى المخلوقات بـ«العقل».. لقد ألغاه من مفردات الحياة فلا هو يتدبر ولا يتفكر -كما أمره المولى عز وجل- إنه يعلق خطاياه وحسناته فى «رقبة الكاهن» ولا يريد أن يتحمل مسئولية قراره، رغم أنه سيُحاسب يوم القيامة وحده.. لن يتولى الكاهن دور «محامى الدفاع» عنه!.

والكهنة بدورهم يديرون صراعاً فى زمن الوباء «كورونا» على السلطة الدينية، فبعضهم محصن بموجب الدستور، والبعض الآخر محصن بجماهير مغيبة وجاهلة لا تعرف إلا سياسة «السمع والطاعة».. لقد منح الله للإنسان عقلاً وحرية كاملة «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر».

فقبل أن تصوم، اسأل طبيبك، واستفت قلبك.
نقلا عن الوطن