قامت وزارة الثقافة بعمل جليل يصب في مصلحة التنوير يوم الجمعة الماضي ، حين أذاعت على قناة الوزارة وقناة هيئة الكتاب المناظرة التي كانت سبباً في إغتيال فرج فوده، كان معه على المنصة في تلك المناظرة التي أدارها د سمير سرحان ،وممثلاً لوجهة النظر المضادة الشيخ الغزالي والدكتور محمد عماره ، وبداية نتوجه للوزيرة د .ايناس عبد الدايم ،ولرئيس هيئة الكتاب د. هيثم الحاج بجزيل الشكر على هذا الجهد وخاصة في ترميم النسخة التي كانت قد تآكلت بفعل الزمن ، وصارت نسختها المتداولة على اليوتيوب رديئة لاتشجع على المتابعة ، وأعتقد أن دلالات ودروس المناظرة أهم من مشاهدتها بمنطق الفرجة على برامج صراع الديوك ، لأن تلك المناظرة كان ثمنها دماً سال لمفكر واجه الفاشية الدينية بصدره العاري ولم يملك إلا قلمه ،
 
والمدهش أنه لم ينطق بكلمة كفر أو هجوم على الإسلام بل على العكس ، كان حديثه في تلك المناظرة دفاعاً مستميتاً عن الإسلام الحضاري ، ومحاولة لنفض غبار أي فكرة تشوهه وتنتقص منه ، وقد يندهش القارئ عندما أقول أن أول الدروس المستفادة من تلك المناظرة أنه لاجدوى في عالمنا العربي من المناظرات بين تيار الدولة المدنية والدولة الدينية !!، فمن يروج للدولة الدينية يصادر الحوار من أول لحظة لأنه يتكلم باسم الله ، فيصبح مانسميه حواراً ، هو في الحقيقة نفي للحوار ، إملاء وليس تبادل آراء ، لأن من يتحدث باسم الله وضع نفسه في موقف محتكر الحقيقة ، لذلك في عالمنا العربي هذا النوع من المناظرات يموت قبل أن يولد ، وهناك نقطة أخرى نحتاج معها إلى محاضرات تعريف وشرح وليس إلى مناظرات جدل وشجار ،
 
وهي نقطة أن من يستمع لمحاضرة عن العلمانية مثلاً ، هو يجهل أساساً ماهي العلمانية ؟!، وإذا كان المتفرج أو المستمع يجهل الموضوع أو العنوان الذي ستدور حوله المناظرة ، فكيف ستطلب منه أن يتفاعل أو يفهم أو يغير رأيه أثناء أو بعد المناظرة ؟، نحن نشاهد المناظرات بقرار مسبق شكلناه قبل المناظرة وسنظل مصرين عليه بعد المناظرة ، نحن لانتابع المناظرات بمسام عقلية مفتوحة ، ولكننا في مجتمعاتنا نتابعها بعقول أسمنتية مصمتة ، وفي معظم الأحيان يشطب اللاوعي من على الشاشة ذلك الضيف الذي يكون رأيه مضاداً لهوانا أو مخاصماً لفكرنا ، ويصبح شبحاً وكأننا لانراه !،لذلك طريق الإستنارة لن تصنعه مناظرات حلبات المصارعة ، ولكن ستصنعه أن نتحصل على المعرفة بحرية ، وأن تطرح الآراء بدون خطوط حمراء أو سقف منخفض ، ولذلك السبب أطرح إقتراحاً آخر على الإعلام المصري وهو إذاعة الحلقات التي سجلها فرج فوده في تونس ، وهي الحلقات التليفزيونية الوحيدة المسجلة لهذا المفكر العظيم حتى تتم معرفة آرائه بدون تشويش، الدرس الثاني من تلك المناظرة التي فجر الاهتمام بها وصف ممثل مشارك في مسلسل الإختيار لموت وإغتيال فرج فوده بأنه "نفوق "!! ، وهو درس يسترعي الإنتباه حقاً ويدعو للتفاؤل ، أن الشباب الذي لم يكن قد عاش زمن فرج فوده وولد بعده بسنوات طويلة ، ولم يكن قد سمع عن المناظرة أصلاً ، بدأ يبحث وينقب عن كتبه ، ويحملها من على الإنترنت ، ويثير حولها مناقشات ثرية وناضجة على السوشيال ميديا ، وهذا يثبت أن الأفكار لاتموت ، الأفكار لها أجنحة محلقة ، قادرة دوماً على الطيران ،
 
وحتى لو سجنتها في قفص ، سيظل تغريدها متجاوزاً لكل القضبان والزنازين ، وهذا ينقلنا للدرس الثالث الذي لابد أن يستوعبه المثقفون ، وكل من يريد دخول معركة التنوير ، ليس ضرورياً أن ترى حصادك في حياتك ، إبذر البذور فقط ، وإمض في طريقك غير عابئ بالسباب والشتائم وكتائب الهجوم ، مادمت مقتنعاً ، مادمت صادقاً ، مادمت تطرح قضيتك بموضوعية وجرأة ولغة راقية ، كثير من أفراد كتيبة التنوير متسرعون في حصد الثمار ، وهو حق مشروع وحلم مستحق ، لكن معركة التنوير في بلادنا ماراثون يحتاج إلى نفس طويل وعزيمة صلبة ، فأنت في هذه المعركة تسير في حقل ألغام ، هي ألغام فكرية راسخة وعمرها الاف السنين من ترويج خرافات وبيع أوهام وتخدير عقول وتسميم أرواح ، المعركة ليست سهلة ولكنها ليست مستحيلة.