فاطمة ناعوت
سنواتٍ طوالًا، فاضت عيونُنا بالدمع مع أخبار اغتصاب ضوارى الدواعش للفتيات الإيزيديات ثم بيعهن سبايا ورقيقًا أبيضَ لوحوش آخرين ليكملوا اغتصابهن وهدر آدميتهن وإراقة دماء عفافهن على مذابح الشهوات والرذيلة والجوع الجنسى الرخيص. سنوات سود ارتفع فيها نجمُ داعش المظلم، كانت صور الإيزيديات تطارد أحلامنا وتصرخ في وجوهنا طلبًا للغوث، فتُشعرنا بالعجز وقلّة الحيلة. لم يخطر ببالنا أن يومًا قريبًا آتٍ سوف نشهد بذات عيوننا التي فاض دمعُها تلك الضحايا المغتصبات في مواجهاتٍ جسور مع جلاديهن الذين اغتصبوهن قبل سنوات، لتدور الدوائرُ وتبدأ الضحيةُ الكسيرة في محاكمة جلّادها الجبار وهو ذليلٌ خافضُ الرأس وقد نُزعت مخالبُه وانتُزعت أنيابُه وصار جرذًا أهتمَ لا حيلةَ له، إلا دموعُ التماسيح الكذوب التي لم نصدقها، ولم تصدقها ضحاياه.

«أشواق حجّى»، إحدى الضحايا الجميلات. فتاة ذات التسعة عشر عامًا التي واجهت مغتصبها في معتقله. كانت باكيةً ثائرةً، وكان صامتًا خائفًا عيناه مصوبتان تجاه الأرض.

(هل تدرى كم كان عمرى حين كنت تغتصبنى بالضرب والإذلال كل يوم؟ أجب. تكلم ولا تصمت.).

وكانت تكلّم صنمًا أخرسَ. بعدما كررت السؤالَ عدة مرات، أدرك السفاحُ المُكبَّل أن الفتاة لا تعبث وأنها قررت عقد محاكمة أشرس من المحاكمة القضائية التي تنتظره. علمنا من المواجهة الغضوب أن الفتاة البائسة كان يجرى اغتصابها اليومى وهى طفلة في الرابعة عشر من عمرها. (كنتُ في عمر ابنتك. فكيف لم تحترم جسدى؟ كيف لم تشفق علىّ وترحمنى؟) وكان يجيب بعبارات مقتضبة تفيد الندم والاعتذار. فأى اعتذار وأى ندم نقبل من هاتك أعراض الطفلات؟.

لم نصدق صمته وإطراقه خجلًا من نفسه، لأن تلك الأفكار المسمومة تدخل رأس المتطرف ولا تبرحه إلا بتفجير الرأس المريض. فالأفكار الشاذة إن دخلت رأسًا، سارت مسرى الدم وأصبحت جزءًا أصيلًا من ذلك الرأس. «الداعشية» فكرةٌ شيطانية، لا تُعالج فقط بالاحترازات الأمنية والاستخباراتية والاستباقية والاعتقال والمحاكمة والعقاب. وليس فقط بالمداهمات الأمنية لأوكار الإرهابيين كما نفعل في سيناء، وينجح الجيشُ المصرى كل يوم في وأد خلايا إرهابية وعناصر داعشية كامنة تنتظر لحظة التمكين.

العلاج لابد أن يكون كذلك فكريًّا وثقافيًّا ودينيًّا. العلاج يكمن في إنهاض المنظومة التعليمية والعمل الجاد على تنقية الرؤوس الصغيرة قبل أن تُلوّث، وتحصينها بالعلم والأخلاق والقيم والمبادئ الرفيعة في صغرها وفى جميع مراحل تطورها، من الطفولة فالصبا فاليفوعة فالشباب؛ حتى يستحيل تجنيدها حين تنضج. هذا ما تفعله الدول الناضجة بتنقية مناهج التعليم من جميع سمات العنف والطائفية والإقصائية والتمييز، وهو ما بدأته مصرُ كذلك منذ العام الماضى على يد وزير التعليم الراهن د. طارق شوقى.

العلاج يكمن في تطوير المنظومة الإعلامية، بضخ برامج تثقيفية تنويرية تنهض بالعقل الجمعى للمجتمع وتقوده نحو الترقى والتحضر ومحاربة الطائفية والتمييز العقدى. العلاج يكمن في عمل برامج توعوية شاملة للأسر حديثة التكون حتى إذا ما استقبلت أطفالًا عرف الآباءُ والأمهات الجدد كيف ينشئون أطفالهم على مبادئ احترام الآخر والقيم الرفيعة التي تزرع الفضيلة في الروح في سن مبكرة قبل الانتظام على مقاعد التعليم.

الداعشية لم تنتهِ بمقتل أبوبكر البغدادى، مثلما لم تنتهِ القاعدةُ بهلاك أسامة بن لادن، ولم تنتهِ طالبان وبوكو حرام بتصفية عناصرها. الداعشيةُ فكرةٌ تخبو وتظهر وفق الشرط المجتمعى الذي قد يكون أرضًا خصبة لنموها فتظهر، أو يكون أرضًا بورًا تلفظها ولا تسمح لها بالنمو والترعرع؛ فتختفى وتموت قبل ميلادها. المجتمع الذكى الواعى يجهد في أن يجعل أرضه بورًا وجدبًا للعشب الداعشى الخبيث. الداعشيةُ فيروس مسموم يسهل حقنه في الأدمغة حين لا تكون محصّنة بمصل القيم والمبادئ والعلم. العقول المحصنة لا يسهل اختراقها، والعكس صحيح. المجتمع المثقف الواعى يجهد في أن يُطعِّم أبناءه بالمصل الواقى من فيروس الداعشية والطائفية منذ طفولتهم.

تحية احترام لكل ضحية كريمة من الإيزيديات الفاضلات اللواتى تحمَّلن ما لا يتحمَّلُه إنسانٌ، وكُتب لهن الصمودُ حتى يحاكمن الدواعش الجبناء على الهواء وأمام نظر العالم وسمعه. «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم