عاطف بشاي
وسط حصار بغيض تهاجمنا فيه «الكورونا» اللعينة من ناحية والدراما الرمضانية الرديئة، بشقيها الكوميدى والتراجيدى، من ناحية أخرى.. وترتفع صيحات المشاهدين الغاضبين على صفحات التواصل الاجتماعى بالشكوى والاستنكار والاستياء لما يرونه على الشاشات من تدهور فنى ملموس فى مستوى المسلسلات والمطالبة بالعودة إلى زمن الريادة.. من خلال دعوة لعودة الكبار من المؤلفين إلى الخروج من عزلتهم الإجبارية التى فرضت عليهم فاصبحوا ضيوفاً غير مرغوب فيهم فى ذلك الزمن الضنين بالفن الحقيقى.. مفسحين المجال إما لدراما الفواجع والعنف واستحضار لشخصيات متدنية سلوكاً ومريضة نفسياً وعقلياً.. أو لشخصيات البلهاء والتافهين الهزلية فى مسلسلات العته والهلس بدعوى الكوميديا وهى منهم براء.. وفى كل الأحوال فإن شقى الدراما يعكسان ابتعاداً مخيفاً عن التعبير عن الواقع الاجتماعى وهموم ومعاناة المواطن الحقيقية..

وسط هذا التراجع المخزى يبرز المسلسل السورى الرائع «حارس القدس» يؤكد أن تراجعنا يقابله تقدم مبهر يتحقق فى الدراما السورية.. والمسلسل إنتاج المؤسسة العامة للإنتاج التليفزيونى والإذاعى من تأليف «حسن م. يوسف» وإخراج البارع «باسل الخطيب».. وهو مسلسل درامى توثيقى فيما يصنف باعتباره «دراما السير الذاتية» ولكنه فى الحقيقة يتجاوز هذا الإطار ليمتد إلى آفاق أرحب.. وأعماق أشمل حيث ينطلق من الأبعاد الاجتماعية والنفسية للشخصية الرئيسية وهى شخصية المطران «هيلاريون كيوجى» وسيرة حياته منذ ولادته 1922 وحتى رحيله 2007 مروراً بشبابه وكهولته والاحداث الهامة التى مر بها ليقدم سيرة شعب ووطن مغتصب عبر بانوراما تاريخية تكشف جذور المأساة لبؤساء يعانون من العنف والجور والقمع والجوع والرعب إزاء معتد غاشم سلبهم أرضهم المقدسة.. وطردهم من ديارهم وهم فى تشردهم وعذاباتهم اليومية الطاحنة.. يناضلون فى بأس وإصرار تشبثاً فى المطالبة بحقوقهم الضائعة.. وكرامتهم المهدرة.. بل فى مجرد بقائهم على قيد الحياة.. وذلك من خلال رحلة البطل التى تشمل مراحل متعددة.. يتشابك فيها الماضى بالحاضر.. فيمزج المؤلف القدير والمخرج الموهوب الأزمنة.. فى نسيج شاعرى خلاب.. ينتقل فيه عبر هذه الأزمنة.. فى تداخل رشيق.. فيصبح السرد قصيدة شعرية شجية وخلابة تهز الوجدان فى تراجيديا مشبعة بالأسى.. تبكى العدالة الضائعة والحق المسلوب والأمل البعيد.. فى مرحلة الطفولة التى جسدها «ربيع جان» فإنه رغم صغر سنه فقد قدمه المؤلف وديعاً ذا قلب مشبع بالمحبة وعقل وثاب لخدمة الرب والوطن.. وكأنه المقدمة المنطقية لعطاء زاخر.. ورسالة سامية يهفو إلى تحقيقها.. وفى مرحلة الشباب التى جسدها الممثل المتمكن «إيهاب شعبان».. بدأت تلك الرسالة تعبر عن نفسها بجلاء فهو يعارض بإصرار وقوة فصل الدين برسالته الروحية المنوط به تحقيقها من خلال دوره كقس.. وبين النضال الثورى ومساندة ودعم ثوار الحركة الفلسطينية فى مقاومة قوى الاحتلال الصهيونى الغاشمة ضارباً عرض الحائط بتعاليم وتوجهات ووصايا رئيسه بالدير بل وتهديده له بطرده.. فهو يرى أن من عرف الحق عز عليه أن يراه مهضوماً.. ومن ثم فلابد أن تتوحد الدعوة الدينية مع الثورة ضد الظلم.. فمحبة الله لا تنفصل عن محبة الوطن.. إن تحرير القدس من أنياب عدو غاشم هو الهدف الأسمى.. وهو هدف تضافرت فيه العقيدة مع سمو الانتماء الوطنى..

والمسلسل فى النهاية يبرز قدرات المخرج الإبداعية وسيطرته على أدواته المختلفة سيطرة تحقق تناغماً متفرداً بين المضمون والشكل المرئى.
نقلا عن المصرى اليوم