د. محمود العلايلي
تصاعدت المعارك خلال الأسبوعين الماضيين على منصات التواصل الاجتماعى مهاجمة فقه ابن تيمية على خلفية ذكره فى مسلسل تليفزيونى شهير، والقول بمحاولة تحسين صورته وإرجاع فتاواه العنيفة للظرف التاريخى الذى أطلقت فيه، وقد ثار حول هذا الموضوع عدة آراء حتى طالت صانعى العمل الاتهامات، إما بعدم درايتهم بخطورة ما يقدمون أو باختراقهم من مؤيدى فكر ابن تيمية.

والحقيقة أنه بقدر تعجبى من كم المتابعات للموضوع، وبقدر ما استوقفنى اهتمام الكثيرين بهذا الشأن الأيديولوجى، بقدر ما انتابتنى حالة من التعجب المختلطة باليأس والملل من إعادة إنتاج نفس المنهج فى محاولة علاج أى إشكالية فكرية دينية، وتكرار إضاعة الوقت على مدى عشرات من السنين اعتقد فيها مناهضو هذه الأفكار أن الحل فى الاستمرار فى دحضها وإثبات خطئها، بينما المسألة لا يمكن أن تحسب هكذا، حيث إن تقييم النتائج لا يكون بحجم المجهود المبذول، ولكن بحجم الإنجاز المتحقق، وهو ما يجب أن يراعى إذا أردنا أن نحسب إيجابيات أو سلبيات أى خطوة أو مرحلة.

وأولى مراحل التقييم سأبدأها بسؤال: ماذا سيتغير فى الوضع الحالى لو انتصر الرافضون لفكر ابن تيمية على المتابعين له والمتبنين لأفكاره؟ الإجابة بدون تفكير هى: لا شىء سيتغير!! وذلك لأن المعركة حول أفكار فى فترة زمنية منقضية، سواء اجتازت هذه الأفكار زمنها أو لم تجتزه، فإن من آمن بهذا الفكر قد آمن، ومن لم يؤمن فلم يتبعه، وبالتالى يظل الانتصار فى هذا النوع من المساجلات من قبيل الكيد بين المتعاركين، بينما الانتصار الحقيقى الذى نريده ونبحث عنه هو كيفية النهوض بالفكر عموما، وتجاوز الماضى والحاضر إلى المستقبل، وصياغة عقول نقدية تقبل الشك والتعدد والاختلاف، وساعتها نقوم بطرح السؤال الثانى: هل تم تقديم أفكار تؤدى إلى ترسيخ التفكير العلمى، ومناهج البحث، وأصول النقد والتقييم؟.

لقد بادر أغلب مهاجمى ابن تيمية بإبراز فتاواه وآرائه بأنه قدم النقل على العقل، وبأنه دعا إلى الاستتابة أو القتل فى أغلب المواقف الدينية الإيمانية، ثم تحريمه للفلسفة والكيمياء، ثم مواقفه المتشددة فى مسائل الجهاد ومحاربة غير المتفقين فى الدين والملة، والحقيقة أن الخطورة ليست فقط فى تراث ابن تيمية المدون ولا فى تفسير هذا التراث، ولا فى تابعيه والمؤمنين بتعاليمه، ولكن الخطورة الحقيقية تكمن فى إجابة السؤال الثالث: إذا كان هناك من بيننا من لا يروج لابن تيمية ولم يدّع يوما علاقته بالرجل ولا بأتباعه، ولكنه لا يؤمن بالعقل قبل النقل، ولا يؤمن بضرورة الفلسفة والمنطق، ولا يؤمن بالشك والتعدد والاختلاف، فماذا يكون موقفنا منه؟

إن المسألة يا سادة ليست فى ابن تيمية ولا فى فقه التطرف والمغالاة، ولا فى علاج ذلك بابتداع ما يسمى المنهج الوسطى غير المفهوم، ولكن المسألة تتركز فى نقطتين محوريتين: الأولى تتعلق بالأفكار، وهو أنه لا جدوى من محاولة إلغاء أو محو فكرة بمجرد رغبة أو قرار أو نتيجة لمعركة فكرية، وإنما تنتصر فكرة أو مجموعة أفكار على ما سواها بأن تحوز المساحة التى تحتلها الفكرة المطلوب القضاء عليها ووضع الأخرى قيد التنفيذ والاستخدام، أما النقطة الثانية فهى المستقبل، فقتل ابن تيمية وأمثاله فى العقول لن يأتى بلقاح ولا علاج لفيروس كورونا، كما أن قتله لن يحل مشكلة الفقر ولن يقضى على الأمية فى العالم، وبالتالى فبدلا من التركيز على التوهم بتغيير الماضى، فمن الأولى العمل على تغيير المستقبل ليتجاوز الحاضر ويتدارك سلبياته، وذلك بإعلاء قيمة العقل النقدى والارتقاء بالبحث العلمى ونشر أفكار القبول والتعدد والاختلاف، لتحل بدلا من التطرف والجهل والغباء.
نقلا عن المصرى اليوم