بقلم الانبا مكاريوس
المسيحية اعتبرت المسيح هو الطبيب الحقيقي
بدايةً وُصِف السيد المسيح بأنه "الطبيب الحقيقي"، وهذا ما نردّده في الليتورجيا مثل أوشية المرضى: "أيها الطبيب الحقيقي الذي لأنفسنا وأجسادنا..."، والتعبير يأتي في اللغة القبطية Picini `mmhi "بي سيني إممي" (بي سيني = الطبيب، إممي = الحقيقي)، وبي سيني Picini تاتي منها metcini "ميت سيني" أي الطب، ومنها في الإنجليزية "مِديسين" medicine.
 
وجاءت بيوت الضيافة التي أقامتها الكنيسة للفقراء والمرضى والعجائز والذين بلا مأوى منذ وقت مبكر في التاريخ المسيحي، وسُمِّيت هذه البيوت hospitality أي مَضيْفة أو دار ضيافة، ومنها جاء اسم المستشفى لاحقًا hospital.
 
وأول بيت ضيافة من هذا النوع كان القديس أثناسيوس الرسولي قد أقامه وعيّن له القس إيسيذورس السكندري ناظرًا عليه، وممّا يلفت الانتباه هنا هو أن الآباء اللاهوتيين العظام لم تشغلهم القضايا والصراعات اللاهوتية عن الاهتمام بالفقراء والمحتاجين، بل سلّمونا أنه لا يوجد فاصل بين اللاهوت والمحبة وعمل الرحمة؛ ومثله الكثير من القديسين كالقديس يوحنا فم الذهب، ولعلّه أكثر من كتب في هذا المضمار.
 
كانت الطرق العامة قديمًا يُقام عليها فنادق صغيرة سُمِّيت "نُزُلًا" أو "بانسيون"، وكانت مُخصّصة لراحة المسافرين وعلاج المرضى وكذلك الدواب، ولعل ذلك يأخذنا إلى مذود البقر حيث وُلِد المسيح، فإن صاحب الخان الذي نزلت العائلة المقدسة عنده لم يجد مكانًا متبقيًا إلّا مكان راحة الدواب التي يملكها نزلاء الفندق الصغير.
 
كما يأخذنا إلى الفندق الذي سلّم فيه السامري الصالح اليهودي الجريح لكي يستريح ويُعالَج، ومن ثَمّ فسّر آباء الكنيسة الفندق على أنه الكنيسة بيت الله، وأن المسيح سيدفع مهما كلّفه الأمر لأجل علاج الإنسان الذي وقع بين اللصوص الشياطين.
 
ومن المشاهد التي نستحضرها هنا أماكن الاستشفاء الموجودة أيام السيد المسيح مثل منطقة بِركة بيت حسدا، حيث خمسة أروقة ملآنة بأسرّة المرضى الذين ينتظرون تحريك الماء ليلقوا بأنفسهم فيه ليُشفَوا من أمراضهم، ولكنه لم يكن خدميًا ولا مجانيًا بدليل أن المُخلّع كان يشكو من أنه ليس له من يلقيه في البركة.
 
ومن الصور الأولى في الكنيسة وجود أسرّة للمرضى في الجانب القبلي منها، يرقد عليها المرضى، وبعد أوشية المرضى (خصّصت الكنيسة بعضًا من أجزاء الليتورجيا للمرضى مثل أوشية المرضى والقطعة الثانية من طلبة الصوم: "شفاءً للمرضى") يأخذ الكاهن الزيت ويمرّ بينهم ليرشمهم، ونتذكر هنا بعض الآباء الذين جاء في سيرهم أنهم حُمِلوا إلى الكنيسة عندما اشتدّ بهم المرض كالقديس أرسانيوس والقديس موسى الأسود.
 
ونقرأ في التاريخ الرهباني عن المجذوم المُلقى على قارعة الطريق، وكيف توسل إليه القديس أولوجيوس الراهب أن يحمله إلى قلايته ليعتني به من حموم وطعام وعلاج، ليأخذ بركة بسببه. ووافق المجذوم على مضض، وخَدَمَه القديس كما يخدم العبد سيده، غير أنه تذمر عليه بسماجة إذ اتهمه بأنه سيخلص على حسابه لأنه يخدمه، ومن ثَمّ طلب إليه أن يعيده إلى مكانه! لولا انتهار القديس أنطونيوس له.
 
ونقرأ في تاريخ الكتيبة الطيبية كيف خرجت العديد من الممرضات القبطيات مع الجيش ليهتمّوا بالجرحى، وكان أغلب الجنود وثنيين، ولكنهن لم يفكرن في ذلك قدر الاهتمام بعمل الرحمة، وما يزال مشهد اليهودي والسامري ماثلًا أمام أعينهن؛ ومنهن القديسة فيرينا والتي علّمت أوروبا النظافة والجمال، وما تزال مئات التماثيل لها في ربوع أوروبا ولا سيما سويسرا.
 
وذكر الأب تادرس الرهاوي أنه سمع من أحد الحُبساء أنه عثر على مال كثير، وأوّل ما فكر فيه هو شراء مكان ضيافة ضخم لهذا الغرض، كما اوقف عليه وقفًا للإنفاق عليه، ورغم أنه ندم بعد ذلك لئلّا تكون حيلة من الشيطان يصرفه بها عن جهاده الرهباني، إلّا أنه يُلاحَظ أن الفكرة قد بدأت تشيع.
 
ويأتي انتشار الممرضات في هيئة راهبات من أديرة الغرب التي قرّرت أن تنزل الراهبات إلى المستشفيات ودور الأيتام والمسنين لخدمتهم، فهذه هي العبادة الحقيقية والديانة الطاهرة «الدّيانَةُ الطّاهِرَةُ النَّقيَّةُ عِندَ اللهِ الآبِ هي هذِهِ: افتِقادُ اليَتامَى والأرامِلِ في ضيقَتِهِمْ، وحِفظُ الإنسانِ نَفسَهُ بلا دَنَسٍ مِنَ العالَمِ» (يعقوب1: 27).
 
وفي سيرة القديس شنوده رئيس المتوحدين نقرأ::
 
"ولكن حدثًا استثنائيًا قد تمّ في أيامه تجدر الإشارة اليه، فقد جاء في سيرته أن القبائل النوبية قد اعتدت على بعض القرى بالقرب من إخميم، ونهبوها، ثم أخذوا الكثير من سكانها أسرى وسبايا. فما كان من الأنبا شنوده إلّا أن ذهب إليهم بنفسه، وتفاوض مع رئيسهم لكي يطلق سراح الأسرى على أن يحتفظ بما نهبه من أموال وغنائم، فوافق.. وعندئذ اصطحب الأسرى لديره، فاعتنى بهم وقدم لهم الطعام والثياب والعلاج حتى استقرت أمورهم، وكانوا نحو عشرين ألف شخص! قام الدير بتدبير احتياجاتهم لمدة ثلاثة أشهر، وجاء في السجلات أنهم استهلكوا 8500 أردب قمح، وكميات ضخمة من العدس والفول والزيت. كما قام الرهبان خلال تلك المدة بخدمتهم بأنفسهم، كما استقدم الدير سبعة من الأطباء لعلاج الجرحى والمرضى. ويُذكَر أنه خلال هذه الشهور تُوفّي أربعة وتسعون من الضيوف، تم دفنهم في مقابر الدير، كما وُلِد لهم في المقابل اثنان وخمسون طفلًا، وقد احتاجوا بالطبع إلى رعاية خاصة وجهد كبير.
ومما جرى في أيامه أيضًا أن حدث مرةً قحطٌ شديدٌ في منطقة إخميم، فجاء كثيرون إليه، فاستمر في إعطائهم الخبز حتى فرغ الطعام من الدير، وعرض الراهب المسئول الأمر عليه بأنه لا يوجد خبز لا للسكان ولا حتى لرهبان الدير، فأمرهم أن يجمعوا كسر الخبز المتبقية، وبلّها بالماء، وقدموا للجميع، وقال لهم: "صلوا لكي يبارك الرب في القليل ليكفي الجميع"، ففعلوا ذلك، ثم لما فتحوا مخزن الخبز وجدوا أن الخبز ملأ المخزن حتى فاض وسقط فوقهم من باب المخزن.
 
ولما شبع الجمهور مجدوا الله وطوّبوا القديس".
 
وبعد مجمع نيقية بُنِيت مستشفى بالقرب من كل كاتدرائية، ومن أوائل المستشفيات التي أُقيمت كانت من قِبَل الطبيب القديس سامبسون في القسطنطينية، والقديس باسيليوس أسقف قيصرية. وقد بنى مدينة دُعِيت "باسيلاس"، وهي مدينة شملت مساكن للأطباء والممرضين، ومباني منفصلة لفئات مختلفة من المرضى، وكان هناك قسم منفصل لمرضى الجذام، وبعض المستشفيات احتوت على مكتبات وبرامج تدريب، وجمع الأطباء دراستهم الطبية والدوائية في مخطوطات حُفِظت في مكتباتها. وبالتالي ظهرت الرعاية الطبية للمرضى في معنى ما نعتبره اليوم المستشفى، وكان يقودها الكنيسة الأرثوذكسية.
وبعد ذلك بمدة قرأنا عن بيوت الضيافة قرب الأماكن المقدسة في فلسطين وفي جميع أرجاء أوروبا لرعاية واستقبال الحجاج، وكانت هذه البيوت النواة الأولى للفنادق.
 
وتُعرَف هذه الفنادق باِسم الفنادق المسيحية أو فنادق الكنيسة.
 
خلال العصور الوسطى حافظت الكنيسة على المخطوطات الطبية الكلاسيكية، وتحولت أديرة العصور الوسطى إلى مستشفيات ومراكز صحية. كان الأطباء والممرضات في هذه المؤسسات الرهبانيات والجماعات الدينية رهبانًا إضافة إلى كونهم أطباء. وتخصصت عدد من المؤسسات والرهبانيات الكنسية في العمل في المجال الطبي والرعاية الصحية، وسمحت الكنيسة الكاثوليكية ابتداءً من عصر النهضة بالتشريح في الجامعات لأغراض تعليمية. وأقامت الكنيسة الكاثوليكية أيضًا عددًا من المشتشفيات التي آوت المرضى.
 
في فترة العصور الوسطى كذلك كان مصطلح "مستشفى" يعبّر عن فندق للمسافرين، ومستوصفات لتخفيف الألم، وعيادات للجراحات من أجل المصابين، وبيوت للمكفوفين وكبار السن. ثم بدأت المستشفيات في الظهور بعدد كبير في فرنسا وإنجلترا. وفي وقت لاحق تحولت معظم الأديرة إلى مستشفيات للمرضى.
 
خلال ذلك العصر تحولت الأديرة الى مراكز رئيسية لدراسة الطب كما عمل العديد من رجال الكنيسة كأطباء وباحثين في مجال الطب، منهم على سبيل المثال الراهب بيرثاروس من دير مونتي كاسينو، ورئيس دير من رايشناو ولافريد سترابو... كما تُعَد الراهبة هايدغارد بنجين الكاثوليكية وهي طبيبة ومعلمة، من بين أكثر العلماء النساء تميزًا في القرون الوسطى، وقد ألّفت كتبًا عدّة حول الفيزياء والعلوم الطبيعية.
 
وخلال انتشار مرض الطاعون كان لرهبانية الفرنسيسكان دور بارز في خدمة المرضى، وعمل دراسة هامة بخصوص المرض. وفي عصر النهضة في إيطاليا شجع الباباوات دراسة التشريح، ومن أبرز الرهبان العلماء في تلك الفترة ثيودوريك بورجنوني، وله إسهامات هامة في طب الجراحة والمطهّرات ومواد التخدير..
 
وفي هذا الإطار برع العديد من العلمانيين والرهبان في الطب والأدوية، وقد ترك عدد منهم بصمة هامة في هذا المجال، كما ذكر كتاب "ذكرى 100 عام لجائزة نوبل" أنَّ حوالي 62% من مجمل الحاصلين على جوائز نوبل في الطب بين عام 1901 وعام 2000 من المسيحيين.

شُفعاء المرضى والأطباء:
من شفعاء الأطباء رئيس الملائكة رافائيل، كما يُعتبر أيضًا القديس لوقا الإنجيلي شفيع الأطباء، وقد كان طبيبًا ومن تلاميذ المسيح، إضافة الى القديسيْن قزمان ودميان وهما طبيبان من سوريا عاشا في القرن الثالث، والقديس قلته الطبيب، وغيرهم...
 
وشفيعات الممرضات مثل القديسة أغاتا، القديسة ألكسيوس، كاترينا الإسكندرانية، (في سيناء) والقديسة مارجريت من أنطاكية، وغيرهم.
 
وفي أيامنا الحالية:
يتسارع الكثيرون -هيئات وأفراد- إلى خدمة المرضى، فلا تكاد تخلو كنيسة من خدمة المرضى، ومن بين كل عشرة كنائس يوجد عيادة أو مستوصف صغير، كما قامت الكنيسة بإنشاء عشرات المستشفيات بعضها على أعلى مستوى.. وفي المنيا توجد مستشفى الراعي الصالح بسمالوط، ومستشفى الراعي ببني مزار، وتُقام مستشفيان هنا في المنيا وأبو قرقاص بمستوى عالٍ جدًا، كما توجد مراكز طبية عديدة. وإلى جوار المؤسسات هناك الخدمات الطبية التي تُقدَّم للمرضى في أماكنهم وليس مرافقتهم فقط غلى المستشفيات وتوفير العلاج، وإنما لتوفير الوجبات والزيارة المنزلية. كذلك حملات التبرع بالدم، وخدمة المجذومين، وخدمة المرضى بالأورام، وغيرهم...
 
ومع ظهور وبأ فيروس كورونا، تقدم الكثير من المتطوعين يعرضون خدماتهم بأشكال متعدّدة، إذ كان للوبأ تأثير اجتماعي إلى جانب التأثير الطبي، فظهر الكثيرون ممن فقدوا مصدر دخلهم، ومن ثَمّ بادر هؤلاء إلى جمع الأموال والطعام لهم، وهم في هذا يضعون أمام أعينهم قول الرب: "كل ما فعلتم بأحد هؤلاء إخوتي الأصاغر، فبي قد فعلتم".
 
في فترة العصور الوسطى كذلك كان مصطلح "مستشفى" يعبّر عن فندق للمسافرين، ومستوصفات لتخفيف الألم، وعيادات للجراحات من أجل المصابين، وبيوت للمكفوفين وكبار السن. ثم بدأت المستشفيات في الظهور بعدد كبير في فرنسا وإنجلترا. وفي وقت لاحق تحولت معظم الأديرة إلى مستشفيات للمرضى.
 
خلال ذلك العصر تحولت الأديرة الى مراكز رئيسية لدراسة الطب كما عمل العديد من رجال الكنيسة كأطباء وباحثين في مجال الطب، منهم على سبيل المثال الراهب بيرثاروس من دير مونتي كاسينو، ورئيس دير من رايشناو ولافريد سترابو... كما تُعَد الراهبة هايدغارد بنجين الكاثوليكية وهي طبيبة ومعلمة، من بين أكثر العلماء النساء تميزًا في القرون الوسطى، وقد ألّفت كتبًا عدّة حول الفيزياء والعلوم الطبيعية.
وخلال انتشار مرض الطاعون كان لرهبانية الفرنسيسكان دور بارز في خدمة المرضى، وعمل دراسة هامة بخصوص المرض. وفي عصر النهضة في إيطاليا شجع الباباوات دراسة التشريح، ومن أبرز الرهبان العلماء في تلك الفترة ثيودوريك بورجنوني، وله إسهامات هامة في طب الجراحة والمطهّرات ومواد التخدير.
 
وفي هذا الإطار برع العديد من العلمانيين والرهبان في الطب والأدوية، وقد ترك عدد منهم بصمة هامة في هذا المجال، كما ذكر كتاب "ذكرى 100 عام لجائزة نوبل" أنَّ حوالي 62% من مجمل الحاصلين على جوائز نوبل في الطب بين عام 1901 وعام 2000 من المسيحيين.
 
شُفعاء المرضى والأطباء:
من شفعاء الأطباء رئيس الملائكة رافائيل، كما يُعتبر أيضًا القديس لوقا الإنجيلي شفيع الأطباء، وقد كان طبيبًا ومن تلاميذ المسيح، إضافة الى القديسيْن قزمان ودميان وهما طبيبان من سوريا عاشا في القرن الثالث، والقديس قلته الطبيب، وغيرهم...
وشفيعات الممرضات مثل القديسة أغاتا، القديسة ألكسيوس، كاترينا الإسكندرانية، (في سيناء) والقديسة مارجريت من أنطاكية، وغيرهم.
 
وفي أيامنا الحالية:
يتسارع الكثيرون -هيئات وأفراد- إلى خدمة المرضى، فلا تكاد تخلو كنيسة من خدمة المرضى، ومن بين كل عشرة كنائس يوجد عيادة أو مستوصف صغير، كما قامت الكنيسة بإنشاء عشرات المستشفيات بعضها على أعلى مستوى.. وفي المنيا توجد مستشفى الراعي الصالح بسمالوط، ومستشفى الراعي ببني مزار، وتُقام مستشفيان هنا في المنيا وأبو قرقاص بمستوى عالٍ جدًا، كما توجد مراكز طبية عديدة. وإلى جوار المؤسسات هناك الخدمات الطبية التي تُقدَّم للمرضى في أماكنهم وليس مرافقتهم فقط غلى المستشفيات وتوفير العلاج، وإنما لتوفير الوجبات والزيارة المنزلية. كذلك حملات التبرع بالدم، وخدمة المجذومين، وخدمة المرضى بالأورام، وغيرهم...
 
ومع ظهور وبأ فيروس كورونا، تقدم الكثير من المتطوعين يعرضون خدماتهم بأشكال متعدّدة، إذ كان للوبأ تأثير اجتماعي إلى جانب التأثير الطبي، فظهر الكثيرون ممن فقدوا مصدر دخلهم، ومن ثَمّ بادر هؤلاء إلى جمع الأموال والطعام لهم، وهم في هذا يضعون أمام أعينهم قول الرب: "كل ما فعلتم بأحد هؤلاء إخوتي الأصاغر، فبي قد فعلتم".