بقلم : فارق عطية
   بعد أن تخلص محمد علي باشا من جميع العقبات التي كانت تهدد استمراره واليا علي مصر، وبعد نجاحه في التخلص من هواجس السلطان العثماني والتأكيد على ولائه له، حتى يكسر العادة العثمانية التي كانت لا تترك واليًا على مصر لأكثر من عامين، قرر أن ينفذ الطلب السلطاني بتوجيه حملة عسكرية للقضاء علي النفوذ المتصاعد للوهابيين في شبه الجزيرة العربية، وأعقبها بتجريد حملة لتوسيع ملكه جنوبا والاستيلاء على السودان. وكانت تلك الحروب التي قام بها محمد علي باشا هي التي مكنت مصر من تحقيق استقلالها القومي، ولولا تلك الحروب لما تكون ذلك الاستقلال ولرجعت البلاد الى عهد الحكم التركي وبقيت زمنا لا يمكن تقديره ولاية تحكمها تركيا كما كانت تحكم سائر ولايات السلطنة العثمانية يتعاقب عليها الولاة كل سنة أو سنتين.
 
   إن شبه الجزيرة العربية كانت أول ميدان للحروب المصرية الخارجية في عهد محمد على باشا، وكانت الحروب فيها من أشق الحروب التي خاض غمارها ومن أطولها مدى ومن أكثرها متاعب وضحايا وكلفة مالية. في أوائل القرن التاسع عشر ظهر عجز الدولة العثمانية في إخماد الثورات التي قامت في وجهها.
 
من هذه الثورات التي أقضّت مضجعها الثورة اليونانية والحركة الوهابية في شبه الجزيرة العربية فاستنجدت بولاتها لإخمادها. حققت الدعوة الوهابية نجاحا في نجد واحتضنها أمير الدرعية محمد بن سُعود بن محمد أل مقرن، وتجاوزتها إلى بعض أنحاء الحجاز واليمن وعسير وأطراف العراق والشام، واستولى الوهابيون على مكّة والطائف والمدينة المنورة، حتى بدأ خطرها واضحًا على الوجود العثماني في أماكن انتشارها في المشرق العربي والعالم الإسلامي. شعرت الدولة العثمانية بخطورة تلك الحركة وأدركت أن نجاحها سوف يؤدي إلى فصل الحجاز وخروجه من يدها وبالتالي خروج الحرمين الشريفين، مما يهدد الزعامة التي تتمتع بها في العالم اٌسلامي بحكم اشرافها على هذين الحرمين، في وقت كانت قد بدأت تسعى فيه إلى التغلّب على عوامل الضعف الداخلية وتقوية الصلات بينها وبين أنحاء العالم الإسلامي بوصفها مركز الخلافة الإسلامية. شكّلت كل هذه العوامل حافزًا للدولة العثمانية للوقوف في وجه الدعوة الوهّابية ومواجهتها للحد من انتشارها، فحاولت في بادئ الأمر عن طريق ولاة بغداد ودمشق لكنها فشلت. فوقع اختيارها على محمد علي باشا، فأعدّ هذا حملة عسكرية بقيادة ابنه أحمد طوسون ودخلت معركة وادي الصفراء لكنها انهزمت.
 
   لم يستثمر الوهّابيون انتصارهم في الصفراء، وقبعوا في معاقلهم، مما أعطى طوسون الفرصة لإعادة تنظيم صفوف قواته، كما طلب إمدادات من القاهرة، وأخذ يستميل القبائل الضاربة بين ينبع والمدينة المنورة بالمال والهدايا، ونجح في سياسته هذه التي مهّدت له السبيل لاستعادة المدينة المنورة ومكة والطائف. لكن الوهّابيين عادوا وانتصروا في تربة والحناكية وقطعوا طرق المواصلات بين مكة والمدينة. وانتشرت الأمراض في صفوف الجيش المصري، وأصاب الجنود الإعياء نتيجة شدة القيظ وقلة المؤونة والماء، الذي زاد موقف طوسون حرجًا، فرأى بعد تلك الخسائر، أن يلزم خطة الدفاع، وأرسل إلى والده يطلب المساعدة.
 
   قرر محمد علي باشا أن يسير بنفسه إلى الحجاز لمتابعة القتال والقضاء على الوهّابيين، وبسط نفوز مصر في شبه الجزيرة العربية فغادر مصر في 26 اغسطس 1812م على رأس جيش آخر ونزل في جدة ثم غادرها إلى مكة وهاجم معاقل الوهابيين، إلا أنه فشل في توسيع رقعة انتشاره وأخلى القنفذة بعد أن كان قد دخلها، وانهزم ابنه طوسون في تربة مرّة آخري. فكان من الطبيعي بعد هذه الهزائم المتكررة ومناوشات الوهّابيين المستمرة لوحدات الجيش المصري، أن يطلب محمد علي باشا المدد من مصر ولما وصلت المساعدات وتأهب للزحف توفي خصمه محمد بن سعود في 27 ابريل 1814م وخلفه ابنه عبد الله، ويبدو أن هذا الأمير لم يمتلك قدرات عسكرية تُمكنه من درء الخطر المصري مما أدى إلى تداعي الجبهة الوهّابية، فصبّ ذلك في مصلحة محمد علي باشا الذي تمكّن من التغلب على جيش وهّابي في بسل، وسيطر على تَرَبة ودخل ميناء القنفذة، في حين سيطر طوسون على القسم الشمالي من نجد.
 
   عند هذه المرحلة من تطوّر المشكلة الوهّابية، اضطر محمد علي باشا أن يغادر شبه الجزيرة العربية ويعود إلى مصر للقضاء على مؤامرة لطيف أغا ذلك المملوك الذي قرّبه اليه وجعله أمين خزانته، ولما استولي الجيش المصري على المدينة المنورة من الوهابيين أرسله للأسيتانة ليزف البشرى للباب العالي، فانعمت الحكومة التركية على لطيف اغا برتبة الميرميران فصار لطيف باشا ، فداخله الزهو والخيلاء، وطمع في أن بكون واليا على مصر، واستشف محمد علي باشا بثاقب نظره التغييرات التي طرأت على أفكاره وحركاته فارتاب فيه وعاد لمصر لتأديبه والتخلص منه. وبعد القضاء على هذه المؤامرة استأنف حربه ضدّ الوهّابيين، فأرسل حملة عسكرية أخرى إلى شبه الجزيرة العربية بقيادة ابنه ابراهيم باشا في 5 سبتمبر 1816م، الذي تمكن بعد اصطدامات ضارية مع الوهّابيين، من الوصول إلى الدرعية ومحاصرتها، فاضطر عبد الله بن سعود إلى فتح باب المفاوضات، واتفق الطرفان على تسليم الدرعية إلى الجيش المصري بشرط عدم تعرضه للأهالي، وأن يُسافر عبد الله بن سعود إلى الأسيتانة لتقديم الولاء للسلطان وان يرد الوهابيون الكوكب الدُري وما بقي بحوزتهم من التحف والمجوهرات التي أخذوها حين استولوا على المديبة المنورة. وعمد إبراهيم باشا بعد تسلمه الدرعية إلى هدمها. وهكذا انتهت الحرب الوهّابية التي خاضها الجيش المصري في شبه الجزيرة العربية، وعاد إبراهيم باشا إلى مصر.
 
   بعد بضع سنوات فكر محمد علي باشا في تجريد حملة لضم السودان إلى مصر وكان هدفه من ذلك، السعي وراء الذهب والماس الذي يردد الناس وجوده في أصقاع السودان خاصة في سنار، ولاتخاذ جنود سودانيين في الجيش النظامي المصري لما عرف عنهم من صبر وشجاعة وطاعة، والتخلص من بقية جنود الفرق غير النظامية في الجيش المصري التي كانت تثير القلاقل ومصدر متاعب له، والقضاء على البقية الباقية من المماليك الفارين إلي دنقلة. 
 
   انطلقت التجريدة المكونة من 4000 جندي في مراكب نيلة بقيادة إسماعيل باشا ثالث أبناء محمد على باشا في 20 يوليو 1820م. سارت الحملة جنوبًا من أسوان إلى وادي حلفا ومنها إلى دنقلة، حيث واجهت المماليك وهزمتهم دون مقاومة تذكر. وفي الرابع من ديسمبر، واجهت جمعًا من السودانيين بأسلحة بدائية وهزمتهم في كورتي، ثم واصل الجيش المصري الزحف واستولى على بربر في 10 مارس 1821م ثم شندي التي أعلن ملكها "نمر" استسلانه، ثم استولى بعدها على أم درمان، وأسس بالقرب منها مدينة الخرطوم لتكون قاعدة عسكرية للقوات المصرية. بعد ذلك وجه اسماعيل باشا نسيبه محمد بك الدفتردار في حملة لضم كردفان. في ابريل 1820م اشتبكت قوات الدفتردار مع قوات محمد الفضل سلطان كردفان في بارا وانتصر عليه ودخل مدينة الأبيض ليضم بذلك كردفان إلى الأراضي الخاضعة للسلطة المصرية. سار إسماعيل ببقية جيشه لضم مملكة سنار، فاستولى على واد مدني، فقدم ملكها "بادي" ولاءه للجيش المصري، فدخل المصريون سنارفي 12 يونيو 1821م.
   وفى أثناء وجود الجيش في سنار انتشر المرض بين الجنود، فاضطر إسماعيل إلى طلب المدد من أبيه، فأمدّه بقوات بقيادة أخيه الأكبر ابراهيم باشا. اتفق الأخوان على تقسيم العمل بينهنا، فكانت مهمة إسماعيل الزحف بجيشه على منطقة النيل الأزرق، ينما اتجه إبراهيم لضم بلاد الدنكا واستكشاف أعالي النيل. واصل اسماغيل زحفه في منطقة النيل الأزرق حتى وصل إلى فاروغلي في يناير 1822م، أما إبراهيم فقد أكرهه المرص على العودة إلى مصر.
   بسبب الازدياد المتواصل في الضرائب التي فرضها المصريون على السودانيين، بدأت الثورات تظهر في مختلف المناطق السودانية، وما أن وصل إسماعيل باشا إلى شندي في ديسمبر 1822م، حتى أمر الملك نمر بالمثول أمامه وبدأ في تأنيبه واتهامه بإثارة القلاقل وتأجيج الثورات، ثم عاقبه بأن أمره أن يدفع غرامة مالية فادحة وألف من العبيد، فأظهر الملك نمر الامتثال ولم تمض أيام حتى دعا إسماعيل باشا وكبار رجاله إلى وليمة، وبعد أن أثقلهم بالطعام والشراب، أمر بإشعال النار في المكان، وأمر جنوده برمي كل من يحاول الهرب بالسهام والنبال، فمات إسماعيل ورجاله خنقًا وحرقًا. فلما بلغ محمد بك الدفتردار الخبر، زحف إلى شندي وأسرف في القتل والسبي، وتعقّب الملك نمر إلا أنه لم يدركه حيث فر إلى الحبشة. بعد ذلك استقرت الأوضاع في السودان ودان لحكم محمد علي باشا.