القمص اثناسيوس جورج
تأتي أهمية المكتبات والكتب في أن من يفتشها يجد له فيها حياة أبدية؛ والكتب المقدسة امتداد للكتاب الإلهي؛ كتاب الكتب؛ كتابنا المقدس.. فكيف لنا أن نتعمق ونفهم ونعرف ونرى عظمة مسيحنا وغنى كنيستنا إلا بالرجوع إلى كتب العبادة الكنسية والتفاسير والشروحات والآبائيات وكتب التاريخ والطقوس والسِيَر؟!
 
إن التعليم اللاهوتي الذﻱ نتلقاه في عظة القداس وفي الاجتماعات التعليمية وفي مدارس الأحد لا يكفي ولا يرُدّ على كل أسئلة واحتياجات المؤمنين المتشعبة والمتعلقة بالتحديات الحاضرة وبالشكوك التي يواجهها إيماننا؛ بالرغم من كل مجهودات العمل التعليمي الدائم والمتفرع والمتدرج لكل الأعمار السنية. ومن هنا يأتي الاهتمام بتطوير المكتبات في كنيستنا؛ حتى يتمكن كل مؤمن من التفتيش والمطالعة والبحث عن المعرفة الإلهية؛ خاصة في عالم يفتقر إلى لذة المعرفة الروحية؛ ويموُج بتيارات وانحرافات عديدة؛ بينما إيماننا ينبني على تصديق المعرفة والإقناع؛ لانه يتأسس على الثقة والقناعة والفهم؛ لا على القهر والإرهاب الفكرﻱ او القمع
 
مسيحيتنا نور وإعلان للأمم؛ وهي لا تعرف التنزيل؛ وهي أيضًا ليست مجرد ممارسات وطقوس دون فهم وعيش؛ لكنها معرفة الله الحقيقية الصافية السامية غير الكاذبة.. وهو ما يتعين علينا أن نفتش عنه في الكتب المقدسة ؛ أنفاس الله. وهو ما لا يمكن لنا أن ننقله شفاهيًا أو سماعيًا في حضارة اليوم؛ بل يجب أن يتراكم فينا عبر القراءة والفحص والتفتيش بإجتهاد. فبدون المعرفة يهلك الشعب .
 
مكتبتك الروحية الخاصة هي ثروتك وكنزك وخير ينبوع عندك لمعرفة المسيح. و مكتبتنا الكنسية تضم خزانة مشبَّعة بمدخرات الودائع الإيمانية الثمينة؛ بعد أن اعتبر آباؤنا الأولون أن أهمية المكتبة تأتي مباشرة بعد المذبح؛ وكل عدم المعرفة يساوﻱ الهلاك.. لذلك اهتم الاباء بالعلاقة بين الإيمان والثقافات المعاصرة؛ بين الإيمان والعلم؛ بين العقل والقلب؛ وحرصوا على فهم الإنسانيات تمهيدًا لفهم الإلهيات والعلوم اللاهوتية، متدربين علي الكتابة والنساخة والفهرسة وتجليد المخطوطات؛ مهتمين بدراسة اللغات الأصلية للكتاب المقدس؛ ودراسة الفهارس والمعاجم والموسوعات؛ حتى يقتنوا المعرفة التفسيرية المنهجية المضنية؛ المؤسسة على الثقافة الواسعة والمعرفة الراجحة ببنيتها الآبائية؛ لا على المعرفة السطحية الظرفية الضحلة .
 
ليس معنى أننا أرثوذكسيون تقليديون أن عصر الآباء قد انتهى؛ لكنه ممتد؛ والروح القدس يعمل حتى الآن ويُخرج جُدُدًا وعتقاء، وآباؤنا الأولون كتبوا أعمالهم اللاهوتية ذات مضمون عقيدي دسم؛ مبني على الكتاب المقدس، ووضعوا قواعد التفسير الإنجيلي، وجادلوا الهراطقة وأفحموا بعلمهم أساطين البدع... كتبوا رسائل ومقالات وأشعارًا وأقوالاً وعظات وتفاسير وخُطبًا وميامر ودفاعيات وتواريخ ؛ وعظّموا قيمة الفكر. لذا تعاطى الشعب القبطي مع العلوم اللاهوتية كما تناوله الآباء المعلمون، ولم يكن في الكنيسة طبقة مستمعة فقط؛ لكن الناس كلهم كانوا يتجادلون باللاهوت في بيوتهم وأشغالهم؛ من حيث أن حياتهم كانت قداسة ومعرفة بآن واحد؛ وفهمهم لم يكن يتوقف عند العقل؛ بل فهمًا إعلانيًا خلاصيًا مشروحًا بالآباء معاشًا بالقديسين؛ فهمًا نسكيًا لاهوتيًا اجتماعيًا ثقافيًا بأبعاده الحضارية والكونية. ( كما في السماء كذلك علي الارض ) . فجاءت كتابات الآباء في مجملها أعمالاً مضنية لا يتصدى لها إلا الأكفاء روحيًا وعلميًا؛ الذين سكنت الكلمة قلوبهم وفاضت بها أفواههم وأقلامهم.. فكما كانوا خدامًا للمذبح؛ كانوا أيضًا خدامًا للمكتب؛ لأنه إذا لم يتحول المكتب إلى مذبح؛ تصير المعرفة الكنسية فانتزيّا وترفًا فكريًا.... هنا نتطلع نحو مكتبة كنيسة مارجرجس سبورتنج بالاسكندرية التي تقدم في هذا الخصوص اعظم ايقونة لرسالة التنوير الكنسي علي مدي الزمن حاملة لرسالة لابد ان تحتزي وتتعمم في الثبات علي المبدء والسعي نحو الهدف مهما حلت المتغيرات والظروف .
 
وأحب أن أنوِّه أن بعض مكتبات الكتب بالكنائس - (لست أقصد المكتبات الاستعارية) – قد تحولت إلى بوتيكات؛ مفضلة تسويق الهدايا عن توزيع المطبوعات وترويج الفكر؛ بحجة هامش الربح وسرعة دوران رأس المال.. بينما رأس مالنا الحقيقي هو معرفتنا الإلهية وإيماننا الثمين؛ وهو لا يُقدّر ولا يُقارن إلا بنفسه... وعُذرﻱ في هذا أنني وجدت البعض يفعل هكذا وليس الكل. بينما لاقيمة تساوي استثمار بناء معرفة ابناء الكنيسة التي لاتثمن بثمن
 
فالكنيسة لا حياة لها بالتقوى فقط؛ ولا بالعلم فقط؛ بل بكليهما معًا (نبدأ بالإيمان ونكمل بالمعرفة؛ ونبدأ بالمعرفة ونكمل بالإيمان). فلنجدد عصر الآباء ونطور أداء مكتباتنا ونصوب خطة عملها ، لتأخذ مكانتها وأهميتها الأولى وتحقق دورها الاصلي ؛ لأننا إذا عرفنا عقيدتنا معرفة وافية؛ نجدُ حلاوة الخلاص الثمين ونلمس كل تفصيل من التفاصيل النافعة للخلاص ولجمال النفس.