قصة قصيرة .. تأليف – روماني صبري 
بعد أن دقت الساعة الحادية عشر مساء، على حين فجأة أمسك السيد يوسف القلم ليكتب خطابا من المقرر إرساله إلى الحكومة، بخصوص تعينه وزيرا للفقراء، حقا لكم يمتلك الرجل من صفاء النفس جعله يرى نفسه غير مناسبا لشغل هذا المنصب، غير أن هناك دوافع كثيرة تصارعه جعلته يقبله في بداية الأمر كما تقبل تجاعيد الشيخوخة التي ما تنفك تبارح وجهه، ويتفق الكثير من البشر على أن الرجل الحنون العطوف على المساكين والمهمشين هو الأجدر بان يكون والدهم الروحي، حيث سينجح في الاعتناء بهم حين يظفر بمنصب مرموق... يقول في نفسه الآن هيا بمقدورك إنهاء الرسالة، قد انتهيت من عبارات الشكر فلتنهي الرسالة بـ اعذروني من المستحيل قبول المنصب ، ولكم كنت مغفلا حين قبلت به.
 
"استرجاع"
مشيئة الرب تحيط بي .. وليباركك الرب أيها الرجل النبيل يا من تزخر حياتك بالسعادة، فعلت الكثير حتى تستحيل حياتي إلى الأفضل، من الجميل غفران خطاياك تجاهي، ولكن لتعلم أن غريزة السرقة لعنة، حقا لكم تتمتع بالدمامة، طردت من قصرك لكن على أي حال سأظل اكتب إليك، وليشهد الله لكم تمنيت ألا تعرف يداي السرقة،  ولكن ما حدث قد حدث، شعوري بالذنب يخنقني، ولكن لماذا أنت بالذات حين انتابتك نوبة عصبية أخذت تصفعني مرارا ومرارا أمام زوجتك والخدم؟! ، حتى كدت القي بنفسي تحت عجلات القطار بعدما خرجت من منزلك حزينة منهكة فأخذت اذرع الشارع طولا وعرضا، لتعلم أن بعض الفقراء يعشقون السرقة مجبورين، ومن حظي العاثر إني ضبطت متلبسة بجرمي، نعم أتذكر دسست الكثير من مجوهرات زوجتك بصدريتي، خادمك الأمين الوغد الحقير النذل لطالما وضعني تحت مدى بصره، كان يشك في منذ البداية ... لماذا قلت سيدي النبيل أن محبتك للآخرين لاسيما للفقراء لا تقدر بثمن، لماذا أنت كاذبا وحقيرا، أورث عنك خادمك الحقارة ؟، ... سيدي ليس مرد ما قلته إنني أبادلك البغض والكراهية، فمنذ ذلك اليوم وأنا ارفع الصلاة للرب حتى لا تنعم بنوم هادئ، ههههه، اكتب إليك هذا الخطاب والشمس تضيء غرفتي القذرة، وهذا لا يحسن من الأمر، وعملي كذلك بقصر احد أعداءك لم يجعل الغبطة تستبد بقلبي، ولما لا وأنا لازلت أتذكر قدماك الناعمتان اللتان كنت اغسلهما يوميا في الصباح. 
 
سيدي النبيل، أيجعل الثراء الفاحش قدم الرجل ناعمة مثل النساء؟، أرجوك لا تحسب ذلك إهانة، فكل ذلك طبيعيا ومألوفا، تصور معي رجل مدمن على ممارسة الجنس، وذات يوما كارثيا فقد نصفه الأسفل، وقتها ماذا سيصرح على عجل قبل أن تفارق روحه جسده ؟ .. بالحق سينفجر ويأخذ يهذي مثلي، قلت أن بعض الفقراء يعشقون السرقة، ومرد ذلك أنني لازلت اعشق قصرك إنني لازلت احبك... مرد ذلك إنني عامدة فضلت توبيخ روحي فان في هذا الكثير من الراحة للنفس البشرية، كنت أرى فيك الأب، لكم كنت تسعدني حين تمر بالمطبخ بكل تواضع وتختلس فينا النظر بكل غموض، لم يكن في ذلك أي ضير.
 
علقت على الحائط صورتك، وكل يوما في المساء ابصق عليها، وعندما يغلبني الحنين أعود واقبلها واطلب من الرب في صلاتي معاقبتي بالمرض نعم أصلي كثيرا هذه الأيام، وسأظل أصلي واصلي حتى أجد لصلاتي طائل ، ثم انزوي في ركني باكية وحيدة، واحدث نفسي : أهذا هو العالم ... ابكي فيه وحيدة دون زوج أو ولد ... ابكي فيه وحيدة بعدما فقدتك ؟ !.
 
"ياسمين" .. خادمتك التي كانت أمينة 
 
"استرجاع"
بعدما قرأ السيد يوسف رسالة خادمته قبل توليه منصبه الجديد، قال لزوجته حيث كان يقرأ الرسالة وهي راقدة بجواره بعد انقضاء دقيقتين من الجنس الروتيني بينهما الذي لا طائل تحته كما يرى دائما بحكم الشيخوخة : كتبت هذه الرسالة لتشير إلى الحب والتخاصم والندم والكبرياء، كنت اعلم أنها سترهق روحي لذلك فضلت إرجاء قرأتها ... أنا الذي قدمت من التضحيات الكثير وكنت بالنسبة للفقراء الراعي، ستقتلني على حين فجأة هذه الرسالة، لكم اشعر بالندم، رباه ليتني كنت في العدم، انظري تقول ياسمين وهي تختصني انتظر حتى يعرفني الثراء الفاحش سأركض خلفك وابصق عليك ثم اشرع أنظف وجهك بمنديل سأكون قد اشتريته من حر مالي.
 
في ذلك اليوم واسته زوجته بقولها : أتتذكر حين وضعت الورود الجديدة فوق طاولة الطعام خلال أسبوع زواجنا الأول؟ ، أنت سرعان ما حزرت أنها جاءت كهدية وحزرت أيضا أن ابن خالتي هو من أرسلها، دائما ما كانت نظرتك ثاقبة، ولأنك لا تعرف تأديب البشر لم تقطع عليا السحر الذي يأتي عند الإنصات للعصافير التي تأخذ تغرد في حديقتنا، كان بإمكانك أن تصفعني كونك تعلم أن قريبي كان يحاول سرقتي منك حتى يجرني للفراش ، لكنك لم تفعل، مرد ذلك إننا لطالما احترمنا البشر حتى خبثهم، لأننا في النهاية بشرا أيضا، ياسمين ومهما حاولت القول والدفاع عنها كانت تدعو للاشمئزاز والتقزز، كانت كريهة الروح حقا، علمت ذلك حين قالت في يومها الأول : أعيش في كوخ قذر بجوار المزابل، كوني وضيعة، كانت تريد كسب تعاطفنا ولكم رايتك تقبل رأسها وتحنو عليها وتمنحها نقود بعيدا  عن راتبها... لكنه في النهاية الفقر القذر، والتفكير في كل ما يحدث يضعف الإيمان، وأنت وأنا لا نريد ذلك، لطالما علمنا آن العذاب في الجحيم لا مثيل له لذلك من غير اللائق أن نلتقي الله ضعاف الإيمان، أرأيت كم سينحاز الإنسان لنفسه في النهاية ... أنت تبغض الخائنين وتعنفهم وفي حالة كنت قبلت بخيانتك كنت لتقتلني، ارتاح يا حبيبي مرد غضبك وصفعك لياسمين طبيعيا .. ودعني أكررها أرأيت كم سينحاز الإنسان لنفسه في النهاية ؟ .. لست اعلم أينبثق الحديث من الإيمان الحقيقي أو جراء الرهاب من الخالق ؟!.
 
"عودة"
إعقاب سجائر ملقاة على الأرض، ودخان يظهر بشكل واضح حين يزفره السيد يوسف بعدما يأخذ نفسا عميقا من سيجارته وهو بمكتبه منتعش الجسد، فقصر الرجل لطالما لم يعرف الرطوبة ولا الاستهتار بقواعد النظافة !، في تلك اللحظة أدرك الرجل انه لشيء عظيم أن يعاتب الرجل روحه، فحدث نفسه قائلا : لماذا رفضت دائما أن يقبل احدهم قدماي ؟!، ولماذا انتابتني الغبطة حين صفعت ياسمين أمام الخدم؟، ثم دمدم يقول : أنا لست هذا الرجل !، اللعنة إذا على الواقع وأقول ذلك كوني لم اسخر من أي بشريا طوال حياتي، إن خطيئتي الكبرى ستظل تكمن في الغضب للشديد الذي يعتريني حين اضبط خائنا، وأن الرجل العاق حين يبلغ الثمانون من العمر ينسى الجنس، كلا كلا رباه الأصح أن الجنس هو الذي يعتزله، نحن البشر لا نعتزل شيئا، وما نعتزله من أشياء بمحض إرادتنا لا يذكر، وجميعها بلهاء؟ كان نشكو من مشروبات الصيف الجديدة مثلا، ربما تجلس ياسمين الآن ترفع الصلاة حتى يدهسني قطارا، رغم ذلك أنا أؤمن لكم تحبني هذه الفتاة، فأنا أتذكر كم كانت تحترمني دونا عن سائر البشر، حتى انه ذات يوما قبل أن اركب العربة لأسافر انحنت على حين فجأة وظلت تقبل قدماي، وتجهش وتبكي، لولا الآم ظهري اللعينة لكنت انحنيت وعنفتها ثم احتضنتها وطمأنتها، على أي حال ليس من الإثم أن يقع ثري مثلي في الخجل كما حدث آنذاك.
 
كلما تذكر السيد يوسف، معاقبته للخائنين بالابتعاد عنهم، تتهدم روحه، ففي كل مرة يجثون على ركبهم طلبا للغفران، يختصهم قائلا :" لست الله "، وبعد انقضاء أيام تذكر يبعث لهم الأموال مع أشخاص غرباء دون الكشف عن هويته، ما يفعله هو الغباء بعينه، ولكم يدرك الرجل تلك الحقيقة؛ لكنه مضطرا الآن لتقطيع الخطاب، حتى يجهز نفسه لتسلم مهام منصبه الجديد، كان يقول في نفسه منذ دقائق، جراء الالتزام بالقوانين فقدت كل ما هو جميل، فلا يكفي مسامحة كل من يخطى، وذلك حتى نجعلهم عبرة للآخرين حتى لا يقعون في نفس الخطأ، حتى لا يقول البلهاء السيد يوسف الثري قصره يضج باللصوص فيشوهون سمعتي، اللعنة على كل ذلك، حالي كحال الكثيرين من الأثرياء في الحقيقة الثراء جحيم مثل الفقر لكنه اقل وطأة يكفي انه يمنحنا الاحترام، فحين صارحت رجل الدين بالحقيقة قال لي هذا قدرك، حسنا لاختبئ دائما تحت زعمي بأنني رجل غضوب لا يقبل الخونة بجواره، ولكم تصبح زوجتي اشد جمالا حين تأخذني كما يقول المثل " على قد عقلي"، فتحضنني وتربت على كتفاي قائلة :"بالفعل أنت غضوب جدا تجاه الإنسان الخائن." 
"تمت"