فاطمة ناعوت
لا شكَّ عندى فى أن فيروس كورونا، لو كان يُدرك ويعى ويقرأ؛ لبدَّل خُطَّته المجرمة مع الجنس البشرى. والإدراك والوعى الذى أقصده، يتجاوز الإدراكَ الفطرى والوعى الغريزى الذى يكون عليه الفيروس حين يتحوّر داخل الخلية البشرية إلى كيان تكاثرى تطفّلى انقسامى انتشارى مجنون. الإدراك الواعى هو إدراك الذات والوعى بالآخر والوعى بالوجود. ولو كان فيروس كورونا قادرًا على القراءة والفهم والتحليل، ثم قرأ كمَّ النِكات والقفشات والكاريكاتيرات والأغانى الساخرة التى أطلقها المصريون للتعامل معه، لانتحرَ الفيروس الغبىُّ من فوره، إن جاز له الانتحار.

«أنا أفكّر.. إذن أنا موجود».. قالها الفيلسوف الفرنسى ديكارت، ليربط بين التفكير والوجود. التفكيرُ هو الوعى والإدراك. إدراك الحضور والذات والآخر وحلول الماضى وغيبية المستقشبل. والوجودُ هو القيمة الامتيازية التى تميّز الإنسان عن سائر المخلوقات. الوجود الواعى الإدراكى، وليس الوجود الجسمانى الفيزيقى الاعتيادى، كسائر الكائنات غير العاقلة. وحين كرّر الفليسوف ضمير «أنا» مرتين فى تلك الجملة القصيرة، فإنما ليؤكد أن «التفكير» لابد أن يكون نابعًا من «ذات» الشخص، ومن لدُن إدراكه الذاتى ووعيه الشخصى، وليس نقلا ببغائيًّا عن آخرين. ذاك هو شرط الوجود.

وهنا أودُّ أن أخطو خطوة للأمام أبعد من مقولة ديكارت لأقول: (أنا أسخر.. إذن أنا موجود)، فأنا مؤمنة بأن جميع الكائنات الحية تفكِّر على نحو ما، وإن على نحو غريزى مثل فيروس كورونا الذى ينحصر تفكيره فى الحياة والتكاثر وتكوين أجيال أقوى. كذلك «النحل»؛ المهندس المعمارى العظيم فى مملكاته المنظمة، و«النملُ» الدؤوب فى أسرابه النمطية المنمّقة، و«الطيور» فى عبقرية رحلات الهجرة من بلاد الصقيع إلى حيث الدفء والحياة فى مواسم الشتاء، و«الكلابُ» فى ذكائها ومقدرتها على تتبع الصديق والعدو، و«التشيمبانزى» الذكى الذى يبارى الإنسان فى التوافق البصرى الحركى، بل حتى فى الابتسامة. فالقرود بوسعها الابتسام حين تفرح. ولى تجربةٌ شخصيةٌ مع قردة أنقذتُها من محنة؛ فضحكت لى وارتمت فى حضنى تُقبّلنى، ولدىَّ صورة لها وهى تبتسم. حتى الكائنات البدائية الأولية تفكّر على نحو ما، وإن كان تفكيرها غريزيًّا نمطيًّا لا إبداع فيه ولا قدرة على التحليل والاستنتاج؛ بل تعتمد تجاربها على الارتباط الشرطى بين الأشياء؛ فتعرف أين مصدر الخير فتتبعه، وأين يكمن الخطرُ فتجتنبه. إذن جميع الكائنات الحية تفكر، وتضحك، فلا يجوز لنا أن نقول: الإنسانُ حيوانٌ مفكر، أو حيوانٌ ضاحك. بل الأدق أن نقول إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على «السخرية».

السخريةُ فنٌّ بشرى قديم، استخدمه الإنسان لكى يتحرر من مشاكله وأزماته واستعباده على يد الطُّغاة. يطلقُ النكتةَ فتهونُ المحنة. يُقلّد الآخرين فيضحك الرفاقُ وتتيسَّرُ الصعابُ. وتوسَّل الأدباءُ السخريةَ لينتقدوا ملوكَهم الجبابرة دون مهابة الفتك بهم على يد جلاديهم. التورية، والاستعارات، والكناية، والأضداد، والرموز، هى ألوانٌ من السخريات استخدمها الإنسانُ لقول الحقائق بطرق مواربة أو معكوسة؛ ليأمن بطش الباطشين. وأثبتت دراسةٌ جرت فى جامعة كولومبيا أن السخرية تُحفّز على التفكير الإبداعىّ لدى الساخر، ولها تأثيرٌ أكبر من الكلام الاعتيادى عند المستمع كذلك.

ويذكر لنا المؤرخون أن أول رواية ساخرة فى التاريخ هى «الحمار الذهبى» التى كتبها الفيلسوف الأمازيغى الساخر لوكيوس أبوليوس فى القرن الأول الميلادى، حين دهن جسده بدهان ليغدو طائرًا محلّقًا، فإذا به يتحول إلى حمار. ثم تكتمل الرواية بمغامرات الحمار ومعاناته مع بنى الإنسان وسخريته من غباء البشر. لكننى أرى أن أول ساخرة فى التاريخ كانت الملكة المصرية العظيمة «حتشبسوت»؛ حين كانت تقود جيوشَها العسكرية وهى تضع على ذقنها لحيةً اصطناعية، كأنما تسخر من عالم الرجال الذى احتكر الفروسية وفنون القتال وحرّمها على النساء. وكأنما تقول: (أنا امرأةٌ جميلة أقود جيوشَ بلادى وأنتصر. وهذه اللحية التى تُرهبكم على وجهى «فالصو» وهمية، لا وجود لها).

الأدبُ الساخر والكاريكاتير من أصعب ألوان الكتابة الإبداعية. لأنك تقولُ فى كلمة صغيرة باسمة، أو فى كاريكاتير من عدة خطوط، ما لم تستطع قوله فى ملحماتٍ مطوّلة وجادة. ذاك أن قطرةَ الماء تُفتت الصخرة الصلدة على نحو أعمق مما تفعله المعاولُ والمطارق. وفى انتظار البشرية لابتكار مصل يهزم فيروس كورونا، نحاول أن نهزمه معنويًّا ونتقوّى عليه بالسخرية منه. كل ما ينقصُنا فقط هو أن يُطوِّر فيروس كوفيد ١٩ من نفسه ليعى ويدرك ويقرأ ما نطلقه عليه من نكاتٍ ساخرة؛ فيموتُ كمدًا.

«الدينُ لله.. والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن الوطن