عاطف بشاي
حينما تختلط المأساة بالسخرية.. والأحزان بالملهاة.. والضحك بالبكاء.. والتراجيديا بالكوميديا.. ويتصارع الحظ الحسن مع القدر السيئ.. تصبح للفكاهة طعمٌ مرٌّ.. فتنجب الأضاحيك فنوناً تراجيكوميدية رائعة (كوميديا سوداء)، فتزاوج الهموم الإنسانية مع مفارقات الواقع الغريبة التى لا منطق لها يجعل من السخرية قيمة ثرية لا تتوقف عند مهرب من مأزق أو متنفس يخفف من عذابات الحياة أو تعويض عاجز عن الفشل.. بل يتجاوز ذلك كله لتخلق أدباً ساحراً وفنوناً راقية..

فقد كان «فولتير» العظيم من خلال سخريته اللاذعة يرسل الفكاهات الموجعة ضد كل نقص أو اختلال.. أو اعوجاج فى الطبيعة البشرية وسلوك الكبراء.. وأدعياء القداسة.. فيعابث المسلمات العتيقة.. ويجرس الخطاة الأشرار.. ويهزأ بالصيغ الرنانة... والتبريرات المطاطة والتعبيرات المعلبة.. والأكليشهات الثابتة.. والفضيلة العرجاء.. والتقوى الزائفة.. فلا يرى نقصاً ويسكت عنه.. ولا انحرافاً ويغض البصر عنه.. ولا فساداً ويتجاوزه.

والسخرية أو التعريض بالأشخاص بالنقد والهجاء تجرد أصحاب الهيبة من هيبتهم.. والسلاطين من سلطانهم.. وتكشف العورات.. وتفضح استعلاءهم الزائف.. وتخلع أقنعة الغرور والغطرسة الهشة عن وجوههم.. وتظهرهم بمظهر تافه ونفوس عارية وعقول خاوية.

يسرد الكاتب الكبير «رجاء النقاش» فى مقال بديع له عن صفحة من صفحات التاريخ يرويها ستيفان زفايج فى كتابه عن «مارى انطوانيت» تكشف عن سخرية يلتقى فيها الضحك بالبكاء ويتصارع فيها الحظ الحسن مع الحظ السيئ صراعاً قاسياً من خلال قصة زواج الملك «لويس» السادس عشر وزوجته الإمبراطورية «مارى أنطوانيت».

كان «لويس السادس عشر» ولياً لعهد فرنسا عندما فكر جده ملك فرنسا فى أمر زواجه من أميرة من أميرات «النمسا»، حيث كان الصراع بين النمسا وفرنسا عنيفاً.. وقد يئس الطرفان من انتصار أحدهما على الآخر.. وهنا ظهر الحل السحرى لماذا لا ترتبط عائلتان من أسرتان ملكيتان برباط المصاهرة والزواج.. وبذلك يتحقق التحالف ويسود الهدوء والسلام؟.. إنه زواج سياسى يضع حلاً للتطاحن لم تستطع الجيوش حلها.. وتم الزواج عام (1770)، وكان عمر «مارى انطوانيت» خمسة عشر عاماً وزوجها «لويس السادس عشر» فى السادسة عشرة.. ولكن منذ الليلة الأولى للزواج تكتشف العروس أن زوجها عنين يعانى من عجز جنسى واضح وفادح..

وأم تستطيع باحتفالات القصر البهيجة والباذخة أن تؤثر فى العيب العضوى المحزن.. وتعرف الأوساط الإمبراطورية فى النمسا وباريس بحقيقة الأمر.. وتستمر المأساة على حالها عاماً بعد عام دون تغيير، كأن سحراً ملعوناً أو اضطراباً خفياً مقدراً كان يحول دون نجاح الملك فى علاقته الزوجية..

يقول «رجاء النقاش»: كان من الطريف أن فرنسا بنزعتها الفنية الساحرة حولت المأساة إلى أغانٍ شعبية انتشرت فى كل مكان، وأصبح الجميع يرددون هذه الأغانى التى تسخر من الملك والملكة بشكل رمزى.

ويوماً بعد يوم اتسع نطاق الأغانى الشعبية التى تتناول هذه القصة، وتحولت هذه الأغانى إلى أشعار فاحشة.. وبعد أن كانت تنحصر فى مجرد التلميح والغمز واللمز والدعابة والتورية اتخذت شكلاً مباشراً من الهجاء والنقد اللاذع والتهكم القاسى.. وكانت السيدات فى البدء هن اللواتى يتناقلن من وراء مراوحهن تلك الأشعار الفاحشة.. ثم ما لبثت الأشعار أن اتخذت سبيلها إلى الشوارع، فيتم طبعها وتوزيعها على أفراد الشعب..

وفى الحقيقة لم يبدأ تحطيم الهيبة الملكية فى فرنسا مع سقوط سجن «الباستيل»، وإنما بدأ بهذه القصة الزوجية فى قصر فرساى.. وهذا الرأى فى تحديد بذور أو إرهاصات الثورة الفرنسية الكبرى 1789 هو رأى الكاتب المبدع «ستيفان زفايج»

المدهش، أنه وكأن التاريخ يعيد نفسه ويسجل نفس الأثر الذى تقوم فيه السخرية والفنون الشعبية المرتبطة بها بدور يتخطى تأثيرها المحدود.. أو معناها الضيق وينتقل هذا التأثير من الخاص للعام..

ويذكر الكاتب الكبير عادل حمودة فى كتابه عن النكتة السياسية.. أنه أثناء الحملة الفرنسية على مصر، وإمعاناً فى السخرية من «نابليون» ظهرت شخصية رجل يدعى «على كاكا» وهو شخصية ذكورية يلف حول وسطه حزاماً يتدلى منه قطعة على شكل الآلة الجنسية فى أضخم أنواعها.. فيثير سخرية وضحك الرجال والنساء... وكانوا يصنعون منه نماذج للحلوى فى الموالد.. لقد صبوا مئات الألوف من هذا التمثال وباعوه فى كل مكان ليذكروا «نابليون» بفشله وعجزه الجنسى، وقد استنتجوا إصابته بهذا العجز لرفضه نساء حسناوات شرقيات بحجة أنهن بدينات وبأن رائحة الحلبة تفوح منهن فكان أن صرفهن دون أن يمسسهن..

يقول فى ذلك «عادل حمودة»: لقد أحس المصريون أنه من العار أنه شاذ أو رجل لا يفهم فى النساء.. فسعوا إلى تحطيم معنوياته بالنكت والقفشات.. ومع انتشار الأمراض بين الجنود.. أصبحت النهاية متوقعة.
نقلا عن المصرى اليوم