نوال السعداوي
فى طفولتى، شهدت الحوارات بين أبى وعمى، الشيخ محمد السعداوى، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، وكان لكل منهما أمه المختلفة، لكن أبوهما واحد.

ورث عمى عن أمه البشرة البيضاء والقامة القصيرة السمينة، والانفعال السريع والتعصب لأفكاره، خاصة ما يتعلق بتعدد الزوجات والطلاق والعدة والحيض والنفاس وغيرها من أمور النساء، وفى أمور السياسة يختلفان أيضا، كان عمى يؤمن بأن رئيسه شيخ الأزهر معصوم من الخطأ، وأن النشيد اليومى الثلاثى «الله.. الملك.. الوطن» كيان واحد لا ينفصم.

لم يشترك عمى الشيخ فى أى مظاهرة ضد الملك أو الإنجليز أو أى معركة فكرية أو سياسية، عاش آمنا ومات فى فراشه ضامنًا الجنة، لم يتعرض مثل أبى لاضطهاد رؤسائه، وتشريده فى وزارة المعارف بأمر من السلطات الدينية والملكية والاستعمار الأجنبى.

وأباح عمى لنفسه الاستمتاع بأكثر من زوجة، مرددا (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع)، ويعترض أبى قائلا: يا أخى اقرأ الآية من أولها لآخرها لتعرف سبب نزولها، لكن عمى لا يريد إلا منتصف الآية فقط، فهوغارق فى نشوة الاحتفاء بزوجته الجديدة سمينة وبيضاء كالشهد.

وحدث الصراع المتكرر فى أسرة عمى، بين زوجته الجديدة المدللة، والقديمة المقهورة ( أم فوزية) التى سميت «الضرة» العدوة اللدودة، وانتقل العداء من الأمهات للأولاد والبنات، كما تم حرمان إبنتها (فوزية) من التعليم الجامعى، لأن الإختلاط بين الجنسين يفسد أخلاقها فى نظر أبيها فضيلة الشيخ.

وكان أبى وفيًّا لأمى، لم يتزوج غيرها حتى ماتت، ثم مات أبى واقفا كالشجرة، متحديا، مثل أمه، عزرائيل الموت والعمدة والملك والإنجليز.

ورث أبى قامة أمه الفارعة الشامخة، وبشرتها المحروقة بالشمس، وشخصيتها العصامية المكافحة، والهدوء النابع من القوة والثقة بالنفس.

مات أبوه وهو طفل، وأمه (جدتى) كانت فى العشرين من عمرها، تعول سبعة أطفال وحدها (بناتها الست وابنها)، شقت الأرض وأقسمت أن ابنها سيكون أعظم الرجال، ولِمّ لا؟. أليست البطن اللى ولدت ابن الملك مثل بطنها؟. وتخبط جدتى على بطنها بكفها الكبيرة القوية أقوى من قبضة الفأس، وتمتلئ عيناها بضوء يشع من بؤرة سحيقة فى دماغها، ربما كانت مركز توليد الجينات فى خلايا مخ الأمهات قبل اكتشاف الأبوة.

وشجعتنى أمى على التعلم بكلية الطب دون خوف من الاختلاط، وأسمعها تقول لعمى:

نرمى نوال فى النار ترجع سليمة.

وأبى يؤكد كلامها قائلا: نثق فى ابنتنا ولا نخاف عليها من الجن الأزرق. ويصرخ عمى منفعلا: اسمع كلام ربنا يا خويا ولا تتبع ناقصات العقل والدين.

ويرد أبى بهدوء: ربنا أمر بالعدل والمساواة وقد تتفوق البنت على الولد.

لم يتعلم عمى إلا فى الأزهر ولم يسافر بعيدا عن بيته، أما أبى فقد تعلم فى مدارس وكليات متعددة بجانب الأزهر، كالقضاء الشرعى ودار العلوم والمعلمين العليا، كما تعلم الفرنسية، وقرأ خارج المقررات وكشف المحرمات، وخالط أقواما من أجناس وأديان مختلفة، وأصبح يستمع جيدا للآخرين، وفى النهاية يفكر بعقله.

ويرتفع صوت عمى غاضبا: تعدد الزوجات حلال، ليه تحرّمه يا خويا؟.

ويرد أبى بهدوء: يا أخى، التعدد حرام إلا بشرط واحد، أن تكون الزوجة الثانية (أو الثالثة أو الرابعة) أرملة تربى أولادها اليتامى، فالآية (وإن خفتم ألا تقسطوا بين اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) تؤكد أن الزواج بأخرى يقتصر على الأمهات الأرامل فقط، وبشرط العدل والإقساط بين أولادهن اليتامى، وبشرط آخر هو العدل بين الزوجات، الذى هو مستحيل يا أخى (ولن تعدلوا) وأنت تظلم زوجتك أم فوزية ولا تزورها فى القرية، كما أن زوجتك الجديدة ليست أرملة وليس لها أولاد يتامى تتولى رعايتهم والعدل بينهم.

ودائما يأتى رد أخيه الشيخ- عمى -: الفرنساوى اللى انت اتعلمته يا خويا أفسد دماغك.

ومؤخرا فى الصحف، قرأت لشيخ الأزهر تصريحا بعدم وجود آية أو حديث يأمر بتعدد الزوجات، وأن التعدد ليس مباحا دون قيد أو شرط، وهذه خطوة متقدمة، لكن كان المطلوب أن يعلن شيخ الأزهر عن السبب الوحيد للتعدد بالقرآن، وهو العدل بين اليتامى، وبالتالى يضرب الاتجاه السلفى الشبقى، الذى يشرٌع التعدد لإشباع نزوات الرجال الجنسية وتجديد شباب العجائز منهم.

بلاد كثيرة منعت التعدد تماما (فالأرامل واليتامى ترعاهم الدولة) حرصا على سلامة الأسرة وتمسكًا بالأخلاق، وفضيلة الوفاء المتبادل بين الزوجين، وتلافيا للانفجار السكانى، فما بال بلادنا المتفجرة بالبشر، يعيشون تحت خط الفقر، والرجل منهم يطلق ويتزوج كما يشاء، وتلد زوجاته كالأرانب، عشرة وعشرين، ألا يفقهون؟!.
نقلا عن المصري اليوم