عاطف بشاي
شدنى مقال جميل للدكتورة «نوال السعداوى» عن الأديبة «مى زيادة» تورد فيه ملاحظة ذكية متصلة بخلو صالونها الأدبى من النساء واحتشاده بعدد كبير من الرجال الأدباء والشعراء والعلماء يزيد عن العشرين.. يتبارون فى معركة مثيرة وغريبة بينهم لمن يكون الأول أو الفائز الوحيد الذى ينتزع إعجابها وحبها.. وكانت هى المرأة الوحيدة لا تنافسها امرأة أخرى..

يفوح عطرها الأنثوى وشبابها الغض وسط بحر من الكهول تركوا زوجاتهم فى البيوت وراء الحجاب وانطلقوا للسهر والفرفشة والترفيه عن النفس من كآبة الشيخوخة وملل الحياه الزوجية.. بحر من العيون والآذان الذكورية المتعطشة للحب.. رجال تجاوزوا الستين عاماً.. وعاشوا جدب العواطف داخل مؤسسة الزواج.. خرجوا من بيوتهم يبحثون عن الحب تحت وهم الأدب أو الشعر.. يستمعون إلى «مى» وهى تتحدث بصوتها الأنثوى الناعم فيطربون كما يطربون لسماع «أم كلثوم».. يخلعون الطرابيش ويصفقون.. الله.. الله.. وقد يقع أحدهم فى حبها أو قد يقع جميعهم إلا أنه حب هش لا يصمد أمام ضوء النهار.. ويسقط أمام أى محنة أو امتحان..

والحقيقة أنه حينما تعرضت «مى» لمأساة تآمر ابن عمها مع مدير مستشفى العصفورية للأمراض العقلية فى «لبنان» ونجح فى إيداعها بالمستشفى بحجة فقدانها لعقلها وذلك طمعاً فى أموالها.. تخلى هؤلاء «الصفوة» المحتشدون فى صالونها عنها.. وتركوها وحيدة تدافع عن كيانها وعقلها.. وخرجت من المستشفى وعادت إلى «مصر» محطمة زال عنها شبابها ورونقها الأنثوى الفياض.. وماتت وحيدة بائسة بعد أن رفضت أن تلتقى بهؤلاء الذين أنكروها وقت محنتها..

المفارقة المؤلمة التى اضيفها لما كتبته د. «نوال السعداوى» أنه بعد سنوات طويلة من رحيلها كان حصاد ما كتبه النقاد الرجال عنها هو الجحود والنكران وعدم الإنصناف.. وبدلاً من دراسة ما شملته مؤلفاتها الغزيرة من دراسات بديعة فى الفكر والأدب والسياسة.. انصرفوا إلى تحليل وتفسير واستبطان لسلوكها الذى اعتبروه مشينا.. ونهشوا فى سمعتها وأخلاقها التى رأوها منحرفة.. فأصدر ناقد كبير هو «أنور المعداوى» فى مقال له هو «مشكلة العلاقة بين مى وجبران.. حكماً باتراً قاطعاً فظاً أنها كانت امرأة ذات طبيعة مغلفة بالشذوذ ويدلل على ذلك أن المرأة الطبيعية هى التى يستيقظ فى أعماقها الشعور بالرجل سواء أكانت هذه اليقظة فى صورة حب مضطرم أم كانت فى صورة عاطفة جياشة أو حس مشبوب..

أما المرأة الشاذة فهى تلك التى تنام فى أعماقها مثل هذه اليقظة التى تلهب دون أن تحس بين جنبيها نارا.. والتى تثير ولا تثار.. هى.. مىّ فى حقيقتها التى لا تتذوق طعم الحب لأنها فقدت شهية الأنوثة.. ويدعى أنه توصل إلى هذا اليقين الساطع من تتبع حياتها النفسية وهى بين الرجال فى صالونها الأدبى. وذكر بعضهم مثل ولى الدين يكن ومصطفى صادق الرافعى وجبران خليل جبران الذى لم تره ولم يرها مطلقاً وتبادلا الرسائل.. هو فى أمريكا وهى فى مصر..

وفى اختيارات المعداوى يلجأ إلى ضرب الأمثلة بنماذج يتصور أنه يتمكن فى لى عنق الحقيقة من خلالهم ليحقق وجهة نظره.. لكنه يفشل فى ذلك فشلاً ذريعاً على كافة المستويات.. فأتت تصوراته مسطحة ومتعسفة فمثلاً يقول: لقد شغف بعضهم ذلك الشغف الذى يذهب بالكرامة ويعصف بالوقار.. مستشهداً برسالة ولى الدين يكن التى يكتبها إليها: عندى قبلة هى أجمل زهرة فى ربيع الأمل أضعها تحت قدميك.. إن تقبيلها تزيدنى كرماً وإن ترديها فقصارى ما أفعله هو الامتثال.. إنى فى انتظار بشائر رضاك.. وطاعة لك وإخلاص..

ورغم هذا التدله الممجوج والانسحاق المبتذل.. ورغم اعتراف المعداوى بذلك.. فإنه يستنكر على مىّ جمودها وترفعها عن قبول قلبها لتلك المراهقة العاطفية فيتهمها بهمود وخمود وموات عواطفها وبأن قلبها لا يعرف النبض.. وكأنه يريد أن يفرض عليها واجباً صارماً أن تبادل يكن تزلفاً بتزلف.. ونزفاً ينزف.. وإلا وصمها بجمود المشاعر ونضوب العواطف.. وافتقار الأنوثة والانحراف نحو الشذوذ ويؤكد الرافعى أن أسلوب يكن يلتقى مع أسلوب مماثل عند الرافعى.. كلاهما فى الحب ذليل وفى الأدب مصنوع.. ويتساءل أتكون مىّ نظرات إلى الرجلين نظرة المرأة المولهة بكبرياء الأنوثة إلى كل حب ذليل..؟ّ

الحقيقة أنها نظرت إلى يكن نظرة أدبية فلم تر فيه إبداعاً خلاقاً ولكنها اتخذت منه صديقاً يكبرها عمراً.. تأنس إلى محادثته ومجاملته.. أما الرافعى فلم تكن تشعر بهذا الحب على الإطلاق خالية الذهن تماماً عما يعتمل فى صدره.. ويجيش فى وجدانه الوثاب إلى عشق أفلاطونى.. هو بطله الوحيد.. وطرفه الأوحد.. فهو تلميذ فى المدرسة الرومانسية التى ترى أن تسعة أعشار الحب رابض فى قلب المحب.. لا المحبوب.. إنه يحب الحب ذاته.. وغاية أمله أن تتركه المحبوبة يحبها بجماع مشاعره وعمق خياله..

وكان يتصور أنها وهى تسوى شعرها فى المرآة إنما تتعمد ذلك حتى ترهقه بنظراتها الولهة فيغادر الصالون ويعود إلى بلدته طنطا ليسهر الليل بطوله يكتب القصائد والانطباعات الملتهبة المتأججة فى قصة الحب التى تربطه بها.. يصف تلك النظرة التى يراها مشتاقاً إلى الوصال.. عطش إلى العناق.. خفاقة بالحب الذى يوصل قلبين بالحنان ذلك الجب الشجى.. وهو يتعذب بهذا الحب عذابا كبيراً فيستمد منه الإلهام هذا وقد انتهت علاقة الرافعى بمى نهاية ميلودرامية غريبة.. حينما رأى ذات مرة فى جلسته بالصالون مىّ والعقاد وحافظ إبراهيم وهم يتهامسون فيما بينهم ويغمزون ويلمزون وهم يرمقونه.. فتصور أنهم يخصونه بالسخرية.. فغضب غضباً شديداً وانقض مندفعاً إلى الخارج.. وجلس بمقهى قريب من منزلها وكتب رسالة هجاء لها.. وانقطع بعدها عن الذهاب إلى الصالون وعن رؤيتها حتى ماتت..

فمن أين أتى المعداوى بذلك اليقين الغريب والحكم القاطع الباتر أن «مى» كان يسيطر عليها فتور غريب أو برود مقيم أو شذوذ متأصل يزلزل فى نفسها المريضة..؟!
نقلا عن المصرى اليوم