الأب رفيق جريش
يحتفل المسيحيون في أول شهر من كل عام، في بداية السنة الجديدة، بعيد الغطاس، سواء 6 يناير أو 19 يناير حسب التقويم، وهو الاسم الشعبى المتداول بين المؤمنين لذكرى اعتماد السيد المسيح في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان. وفى كل سنة يتوجه المسيحيون من كافة الكنائس ويقيمون الصلوات.

تركز الكنيسة على هذا الحدث التاريخى الذي يعتبر من أقدم الأعياد المسيحية ويوازى عيد الميلاد المجيد من الناحية اللاهوتية والروحية كما يذكر في التقليد الكنسى القديم فيقول لنا القديس أيرونيموس: «إن المسيح أتى إلى العالم متخفيًا، أما في المعمودية فقد ظهر للعالم علنًا». ومن الأسماء التي تطلق على هذا الحدث التاريخى «عيد الظهور الإلهى» لأن الثالوث ظهر فيه الله الأب قائلًا «هذا هو ابنى الحبيب الذي به سررت». و«عيد الغطاس» لأن عملية التعميد تتم من خلال تغطيس الطفل بالماء، و«عيد النور» لأن السيد المسيح هو نور العالم وعيد الدنح كما يسميه الكلدان في العراق.

عماد السيد المسيح على يد النبى يوحنا المعمدان نجده في الإنجيل المقدس، فيوحنا المعمدان كان يمهد الطريق للسيد المسيح ويدعو الناس إلى التوبة واقتراب ملكوت الله، كما أنه دعا تلاميذه إلى اتباع يسوع المسيح الذي حمل خطايا العالم. تصف لنا الرواية الكتابية أن أقدام السيد المسيح وطئت نهر الأردن وقدست مياهه وانفتحت السماء ونزل الروح القدس وأتى صوت من السماء يقول هذا هو ابنى الحبيب الذي عنه رضيت. ومن هذه الحادثة يعتقد المسيحيون أن السماء في ليلة عيد الغطاس تكون مفتوحة والله يستجيب الطلبات والدعوات في هذه الليلة المباركة.

ومن العادات الجميلة التي ترافق ليلة العيد عمل حلويات خاصة به تسمى الزلابية، وفى القديم في لبنان حيث كان المسيحيون يعدون الخبز في بيوتهم تقوم السيدات بتجديد وتغيير الخميرة، رمز البركة والنعمة التي تحل على الطعام والبيت والسنة الجديدة. أما في مصر فيأكلون نبات القصب الذي يرمز إلى ضرورة التحلى بالاستقامة في الحياة الروحية، والقلقاس الذي ينبت وقت عيد الغطاس ويرمز إلى انتصار الحياة على الموت. وكما جرت العادة كان المؤمنون يذهبون إلى نهر الأردن ويغتسلون هناك رمزا للتطهر من الخطايا والنقاء والصفاء.

وقصة العماد يعبر عنها بالرسم في الأيقونات والتى نجد فيها نهر الأردن بين الصخور كالأفعى حيث ترمز التموجات إلى كلمة أردن أي شديد الانحدار، ويقف السيد المسيح في وسط مياه النهر ونلاحظ أنه يبارك بيمينه المياه مما يرمز إلى مباركة عناصر الطبيعة الأربعة: الماء والهواء والأرض والنار. ومن هنا جرت العادة أن يقوم الكاهن بزيارة بيوت المؤمنين ورشها بالماء المقدس الذي تتم الصلاة عليه خلال الاحتفال بالعيد وأن الله يبارك كل شىء في حياتنا.

في القديم كان الماء يرمز إلى أن عناصر الشر وقوى الظلام التي تسكن في أعماق البحار وفى الصلوات الطقسية نرتل في ليلة عيد الغطاس الترنيمة الشعبية التي يرددها جميع المؤمنين «أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح قد لبستم، هللويا».

ومن الناحية اللاهوتية يذكر عيد الغطاس المؤمنين بيوم عمادهم الذي هو مدخل للديانة المسيحية وبه يلتزم باتباع التعاليم الإنجيلية وإنكار الشيطان وكل أعماله وجميع أباطيله واتباع المسيح. وكل المسيحيين يعتقدون بإيمان واحد وإنجيل واحد ومعمودية واحدة، وإله واحد أب لجميع الخلق.

ومن ناحية تاريخية وجغرافية نلاحظ عددا كبيرا من الدلائل تشير إلى وجود موقع المغطس مكان عماد السيد المسيح الذي يبعد عن عمان 45 كيلو مترا إلى الغرب من العاصمة عمان وإلى الشمال من البحر الميت، وقد ذكره يوحنا الرسول في الإنجيل المقدس عندما قال: «هذا كان في بيت عنيا حيث كان يوحنا يعمد» (يو 1: 28) مما يثبت أن يوحنا المعمدان عمد السيد المسيح في بيت عنيا.

وفى اللوحة الفسيفسائية التاريخية التي تعتبر أقدم خريطة دينية في العالم الموجودة في كنيسة القديس جورجيوس للروم الأرثوذكس في مادبا والتى يعود تاريخها إلى القرن السادس، نجد أن موقع بيت عنيا الذي ذكره القديس يوحنا موجود في الضفة الشرقية من النهر على الخريطة التي لا تزال شاهدة إلى يومنا هذا. وقد أكد المؤرخون من خلال مذكراتهم التي كتبوها- ونذكر منهم على سبيل المثل لا الحصر ثيوديسيوس وأنطونيوس والقديسة هيلانة- أن طريق الحج والصلاة كانت من القدس إلى بيت عنيا ومن ثم إلى مادبا.

وما دفع الكنيسة والحكومة ممثلة بوزارة الساحة والآثار الأردنية إلى الاهتمام بهذا الموقع هو الاكتشافات الأثرية التي تم الكشف عنها منذ 1996. وهذه الجوهرة الثمينة هي عبارة عن قرية دينية متكاملة تشتمل على تسع كنائس وبرك للعماد وكهوف للرهبان وتل مارالياس وأرضيات فسيفسائية جميلة ونقوش وكتابات وقد حافظت اللجنة المشرفة على الموقع على طابعه الأثرى والذى يعود تاريخه إلى حقبتين هامتين الأولى هي العصر الرومانى من القرن الأول إلى الرابع وهى الفترة التي عاش فيها السيد المسيح والقديس يوحنا المعمدان، والثانية هي العصر البيزنطى من القرن الرابع إلى القرن السابع الميلادى حيث بلغ الموقع عصره الذهبى عندما اعتمدته هيلانة أم الإمبراطور قسطنطين.

ونلاحظ أن أهمية مكان عماد السيد المسيح الروحية والدينية والتاريخية والوطنية والسياحية واللاهوتية تزداد يومًا بعد يوم، لأنه يعتبر مركز انطلاق المسيحية للعالم. إن السيد المسيح ولد في بيت لحم بشكل مخفىّ وعاش حياة صامتة متواضعة ولم يكشف عن نفسه ورسالته لأن ساعتها ووقتها لم يأت بعد، ومن بيت عنيا أشرقت شمس المسيحية للعالم وبدأ السيد المسيح رسالته بشكل علنى ومباشر لكل العالم، وأرسل تلاميذه ليعلموا ويبشروا ويعمدوا كل العالم.

وكل عام وأنتم بألف خير
نقلا عن المصري اليوم