فاطمة ناعوت
حدّثتكم يومَ الخميس الماضى عن «نزعة الانتحار» لدى الأشخاص، الذين لا يملكون ما يكفى من قيمة «الوعى بالحياة». يعيشون وفقط، دون إدراك حقيقى لقيمة كل يوم وكل ساعة، ولا يدركون أن العمرَ، مهما قَصُر، يعنى كنوزًا من الأحلام والجمال والعمل والإنجاز والتحقّق وخدمة الإنسانية.

من خلال رواية «باولو كويللو» تلصَّصنا على حياة ڤيرونيكا، الشابة الجميلة التى ذهبت إلى الموت بإرادتها، رغم عدم مرورها بأزمة تدفعها إلى الانتحار! قرّرت أن تباغتَ الموت بدلًا من انتظاره يباغتها، كما يفعلُ عمومُ البشر كلَّ يومٍ بخوف وترقّب ورفض وهروب. ابتلعتِ السُّمَ فقط لأنها ضجرت من مرور الأيام والسنوات على الوتيرة ذاتها، فرفضت الاستمرار فى رتابة العمر. وحين أخبرها الطبيبُ أن جزءًا من قلبها قد تلف، وأن أسابيعَ قليلةً هى كل ما تبقى لها من عمر، أفاقت على صحوة: «الوعى بالحياة»، فقرّرت أن تعيش تلك الأيام القليلة بكامل طاقتها ووعيها. تعلّمت عزف البيانو وأحبّت شخصًا، وصادقت زملاء المصحّة وساعدت المرضى، فوجدت لحياتها معنى وتشبّثت بها.

أما أنا فأؤمن أن «شخصية المنتحر» عادةً ما تُخفقُ فى مرحلة من مراحل الأمل: إما عدم الوقوف على حلم ما أو هدف، أو عدم الإيمان بالقدرة على تحقيقه، وبالتالى عدم السعى للوصول، فيكون الانتحارُ هو البديل الأيسر. وتكلّمنا عن فيلم «أنت عمرى»، الذى تباينت فيه شخصيتا رجل وامرأة أوشكا على الموت بالسرطان. الباليرينا الطموح «نيللى كريم» قرّرت أن تحقّق حلمَها قبل موتها لأنها آمنت بالحلم. بينما استسلم المهندس اليائس «هانى سلامة» لحتمية الموت الوشيك، فراح ينتظره بتسجيل صوته على أسطوانات حتى يسمعها ابنُه الطفلُ حين يكبُر، فعاشت الباليرينا، ومات المهندس، رغم أن السرطان كان لديها فى مراحل أقسى.

لحظة معرفة المريض بموته الوشيك أصعبُ من لحظة الموت ذاتها. تلك هى النقطة المفصلية التى تتبدّل بعدها الحياةُ، فلا نعودُ نرى الأشياء على نفس النحو أبدًا. بعد تلك المعرفة لا شىءَ يُفرحُ ولا شىءَ يُحزن. تغدو الحياةُ بلون الرماد المحايد البليد، انتظارًا للحظة النهاية. لكن الأمر جدّ مختلفٌ عند أولى العزم القابضين على زمام أحلامهم، الواثقين فى أنفسهم، وفى قدراتهم، وفى رسالاتهم.

تختلف تلك اللحظة من شخص إلى آخر. تصبحُ نهايةً وخوارًا عند اليائسين الضعفاء، وتغدو نقطةَ بداية وانطلاق لدى ذوى العزم الأقوياء. لم تذرف الباليرينا القوية دمعةً حين عرفت باقتراب لحظة موتها. رحبت بموتها، بشرط أن تحقق أولًا حلمها بالرقص مع فريق البولشوى على خشبة دار الأوبرا المصرية. بينما امتدت تلك اللحظةُ كالأبد عند المهندس اليائس، فانهار وذرف الدمع، وهجر بيتَه وزوجته وأباه وطفله، وانعزل عن العالم، لكى يموت وحيدًا. تمامًا كما تفعلُ الأفيالُ حين تعلم بدنو الأجل، فتذهب إلى مكان قصىّ للموت دون رفيق. الباليرينا آمنت بحُلمها، وآمن المهندس بموته. إيمانُها هزم الموتَ، بينما ضعفُ إيمانه عضّد الموتَ. حلمُها صلبٌ متماسك، وحلمُه مُخترَق بثغرةٍ فى كعبه، نفذَ منها سهمُ الهدم.

ظلَّت الباليرينا ترقص طوال الوقت حتى يداهمها الموتُ راقصةً فوق خشبة المسرح، مثلما قضت ڤيرونيكا/ باولو كويللو ساعاتِها الأخيرةَ تعزف البيانو كى تموتَ فوق أصابعه.

قدمت الباليرينا رقصات شديدة الجمال، مزجت بين ألوان وطعوم من الرقصات والثقافات والحضارات، لا تجتمع إلا فى خطوات موهوبة بحجم «نيللى كريم» لتشكّلَ قطعةً رفيعة من الجمال والثراء، غزلتها من خيوط الرقص الشرقىّ والغربىّ والرعوىّ والبدوىّ والفرعونىّ والهندىّ والإسبانىّ والأوبرالىّ فى رقصة واحدة، مع إحساس رفيع بالحركة والسكنة والتوقيع، وكأنها تضمُّ الكوكبَ كلَّه بجسدها قبل فراقه.

وقف المريضان المقبلان على الموت فوق جسر قصر النيل. قالت الباليرينا لرفيق الموت إنها بالأمس حلمتْ أنها قابلتْ فارسًا وركضتْ معه تحت المطر، فقال لها المهندسُ إنه رأى الحلمَ ذاته، ولكن من دون مطر، لأنه فصلُ الصيف. يركضان معًا، فتمطرُ السماءُ رغم الصيف. هنا تيمة الفيلم: «الإيمان بالحلم وحتمية تحقيقه». هنا نتذكّر مقولة «باولو كويللو» فى رواية «الخيميائى» Alchemist: «لو تمنيتَ شيئًا ما بصدق، فإن العالمَ كلَّه يتآمرُ لكى يحققه». وكانت الفتاةُ أكثر إيمانًا بأحلامها، فأمطرتِ السماء. تحية احترام للموهوبين «هانى سلامة ونيللى كريم». احلموا، وصدِّقوا أحلامكم، وآمنوا بقدرتكم على تحقيقها. وقبل هذا وذاك، امتلكوا: «الوعى بقيمة الحياة». ودائمًا «الدينُ لله، والوطنُ لمَن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم