عبد الحليم قنديل
كل حدث كبير يغير معه خرائط العام وتوازناته وموارد الإلهام فيه ، وحوادث الحرب ضد فيروس "كورونا" ، الذى تحول طبقا لتصنيفات منظمة الصحة العالمية ، من "مرض متوطن" إلى "وباء" ، ثم إلى "جائحة" عبرت إلى الدنيا كلها ، وأغلقت عواصم الحركة فى العالم الواسع ، الذى لن يعود عند الافتتاح بعد الإغلاق ، إلى ما كان عليه أبدا .

يعلمنا التاريخ الحديث بعد القديم والوسيط ، أن حروب السلاح والأديان والأوبئة ، صنعت المحطات الكبرى الفاصلة ، وأذلت أمما وامبراطوريات ، وقفزت بأخرى إلى صدارة المشهد المؤثر ، وأن المنتصرين يفرضون روايتهم وثقافتهم وأساليبهم فى الحياة ، وهكذا كانت التحولات المؤرخة لبداية العصر الحديث ، وبالذات فى العام 1492 ، مع سقوط "غرناطة" واكتشاف الأمريكتين ، وتدافع موجات التجديد فى أوروبا ، وزحف قواها الاستعمارية إلى تضاريس كوكب الأرض ، واحتلال أوطانه واستنزاف ثرواته وتبديد هوياته ، وتأكيد "سيادة الغرب" بالسلاح والعلم والتصنيع والكشوف الأثرية والتكنولوجية ، وإلى حد بدت معه سيرة أوروبا الحديثة ، كما لو أنها سيرة الدنيا كلها ، وحروبها الداخلية والخارجية ، كما لو أنها حروب العالم بأسره ، ونظرياتها فى الاقتصاد والسياسة والأدب والفلسفة ، كما لو أنها "فرض عين" على كل صاحب عينين ، ولم يعد لأى فرد فى الكون ، سوى أن يناصر هذا الطرف الأوروبى أو ذاك ، وهكذا فرضت أوروبا تاريخها كأنه تاريخ العالمين ، وحين دخلت أطرافها فى حروب النصف الأول من القرن العشرين ، حملت حربا أوروبا الكبيرتان صفة الحروب العالمية ، رغما عن أنوف الآخرين ، فلم يكن فى العالم سوى الغرب والباقى (the west and the rest) ، وسرت النظرة الدونية إلى هذه الدنيا الباقية خارج الغرب ، وكأنها سقط متاع ، بينما هى أغلب شعوب العالم وحضاراته المتنحية فى الشرق والجنوب ، وطغت نظرة التسيد الأوروبى ، حتى بعد دخول أمريكا على خط تسيير شئون العالم ، فأمريكا فى البدء والمنتهى منتج أوروبى تاريخيا ، وإن بغلظة وشراسة أكبر ، وبموارد لم تتوافر لقوى أوروبا المسيطرة قبلها ، ومع إدعاء نظرة إنسانية وأخلاقية ورسالية معدومة الأساس ، فقد قتلت أوروبا وجيوشها الغازية مئات الملايين من شعوب المستعمرات ، وجعلتهم مواردا لغنائمها ، التى كان طبيعيا ، أن يدب الخلاف على عوائدها ، فى حروب أوروبا البينية المتوالية ، وإلى أن دارت الحربان الأولى والثانية ، اللتان عرفتا بالعالميتين ، برغم أن أغلب شعوب العالم كانت بلا ناقة ولا جمل فيهما ، وهما حربان أوروبيتان ـ أوروبيتان بامتياز ، استمرت الأولى بين أواسط 1914 إلى نهاية 1918 ، وسقط فيها ثمانية ملايين قتيل على أقل تقدير ، ومثلها من الجرحى والمشوهين والمعاقين ، إضافة لخمسين مليون قتيل بوباء "الانفلونزا الأسبانية" المصاحب للحرب ، وهزمت فيها ما كانت تسمى "دول المركز" ، وانهارت الامبراطوريات الألمانية والنمساوية والعثمانية ، فيما فازت جيهة حلفاء بريطانيا وفرنسا وروسيا ، التى كانت قد خرجت من الحرب قبل أن تنتهى ، مع نشوب الثورة البلشقية فى أكتوبر 1917 ، وكشفها لوثائق توزيع الغنائم بين بريطانيا وفرنسا ، وفيما كانت أمريكا على مقربة من وقائع الحرب الأولى ، فإنها دخلت مباشرة إلى الحرب الثانية ، نجدة لبريطانيا وفرنسا ، بعد الانتصارات السريعة لألمانيا الهتلرية ، التى صنعت محورا هذه المرة مع إيطاليا موسولينى فى الحرب ، التى دارت رحاها الأعنف بين عامى 1939 و 1945 ، وسقط فيها ما يزيد على ستين مليون قتيل ، ودخلت روسيا السوفيتية على خط القتال بعد أن غزاها هتلر ، وتمكن الحلفاء فى النهاية من قهر ألمانيا واحتلالها وتقسيمها ، لعقود طويلة زمن الحرب الباردة ، فيما تمكنت أمريكا من سحق اليابان ، التى دخلت الحرب متأخرة إلى جانب دول المحور ، وكانت النهاية باستخدام أمريكا للقنابل الذرية فى محرقة هيروشيما ونجازاكى ، وهكذا جرى فرض خرائط قوة ، سيطرت حتى قريب ، وصنعت جهاز مجلس الأمن القائد لمنظمة الأمم المتحدة ، وأعطت مقاعده الدائمة للمنتصرين ، ومنحتهم حق الاعتراض "الفيتو" بإشارة أصبع ، وحجزت لبريطانيا وفرنسا وأمريكا وروسيا أربعة مقاعد مضمونة ، فيما تلكأ المقعد الخامس طويلا ، حتى سبعينيات القرن العشرين ، وأرادت أمريكا حجزه لحليفتها جزيرة "تايوان" الصينية ، وإلى أن جرى التسليم بأحقية جمهورية الصين الشعبية ، التى تتقدم الآن بثقة وتواضع لصناعة العالم الجديد بعد حرب "كورونا" بالذات .

وبالجملة ، يبدو دور أوروبا ، ومنتجها التاريخى الأمريكى ، إلى تراجع أكيد ، ليس فقط بسبب ما بدت عليه من عجز مخز فى حرب "كورونا" ، فى مقابل تفوق الصين الباهر ، بل لأن الحرب نفسها بدت كورقة نبات "عباد الشمس" ، التى تتحول حركتها مع نور الشمس ، وتتغير ألوانها فى حركة دائبة لا تزول ، وربما بذات المغزى الذى قصده الرئيس الصينى جى شين بينج فى اتصال هاتفى مع رئيس الوزراء الأسبانى ، كان الأخير يستنجد بالصين فى مواجهة تفشى "كورونا" المريع ، ورحب الرئيس الصينى ، وقال لمحدثه الأسبانى "غدا تمضى العاصفة وتشرق أشعة الشمس" ، وبالفعل جاءت الشمس القادمة من اتجاه الصين ، فما من دولة أوروبية كبرى أو صغرى ، تخلفت عن طلب النجدة من الصين ، التى راحت تخطو فى استعراض عظمة ذى طابع إنسانى شامل ، وتزحف طائراتها إلى مطارات أوروبا ، بمئات وآلاف الأطنان من الكمامات والبدلات الواقية والمستلزمات الطبية وأجهزة التنفس الصناعى ، فيما أغلقت أمريكا بابها عليها ، وراحت تتعثر فى المواجهة ، وتنافس إيطاليا وأسبانيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا فى أعداد المصابين والوفيات المخيفة ، وتواجه مخاطر التدهور الكامل للنظام الصحى ، وتظهر انهيارا أخلاقيا كان ملازما على الدوام لدورات الصعود الغربى ، وإلى حد إعلان رئيس الوزراء البريطانى جونسون تفضيله لاختيار ما أسماه "مناعة القطيع" ، أى ترك العدوى تتفشى ، وتميت الملايين من كبار السن ، فيما لا ينجو سوى الأكثر مناعة ، على طريقة "البقاء للأقوى" ذات الأصل الداروينى، وفيما بدا أن جونسون تراجع فيما بعد عن كلماته الوحشية بصورة جزئية ، فقد واصل ترامب الأمريكى تجاهله لأوروبا الغارقة فى المصيبة ، وقطع التواصل الجوى معها ، ولم يقدم لها جرعة دواء ، بل أراد استنزافها وسرقتها على طريقة عرضه شراء شركة "كيور فاك" واحتكار "لقاح كورونا" لأمريكا بمفردها ، وهو ما ردت عليه الحكومة الألمانية بقولها "ألمانيا ليست للبيع" ، غير أن طريقة ترامب السوقية ، وبأصولها النفعية البراجماتية الداروينية ، بدت كأنها عقيدة دوائر أوسع فى أوروبا العجوز المتهالكة ، فقد عجز الاتحاد الأوروبى عن تقديم أى عون مؤثر لدوله السبع والعشرين ، وظهرت دعوات فى إيطاليا وغيرها ، تطالب بترك كبار السن للموت ، بهدف تخفيف الضغط على النظام الصحى ومنشآته المحدودة القدرة ، ولم تتراجع الدعوات غير الأخلاقية ، إلا بعد تدخل الصين بمعوناتها الهائلة عبر الجسور الجوية الذاهبة لأوروبا ، وعبر قطارات فائقة السرعة ، تحمل شحنات الإنقاذ ، من شرق الصين إلى عواصم أوروبا الغربية ، لنجدة القارة الشائخة المنهكة سياسيا وطبيا وماليا ، إضافة لبروتوكولات العلاج التى تقدم الصين أغلبها ، كذا محاولات التسريع بإنتاج لقاح تقودها الأكاديمية الطبية العسكرية الصينية ، وهكذا بدت الصين بوجه إنسانى مشرق ، تقدم المعونات بالمجان ، وتكسب نفوذا مهولا لقوتها الناعمة ، المصحوبة بتفوق تكنولوجى جبار ، وبإمكانيات وفوائض مالية فلكية .

ولم يأت التفوق الصينى المذهل من فراغ ، ولا هو محض مصادفة طبعا ، بل أتى مرتبطا بدورات التاريخ وحوادثه الكبرى ، فقد أنهكت الحرب الثانية قلب الغرب المسيطر فى أوروبا ، وكتبت نهايته فى حرب السويس 1956 ، وانتقلت القيادة الغربية إلى أمريكا ، التى أرهقها دور شرطى العالم الوحيد ، وزادت نفقاتها العسكرية على حساب قوتها الاقتصادية والإنتاجية ، فيما كانت الصين تصعد فى هدوء وسلاسة منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين ، وتحقق فى نحو أربعة عقود لا تزيد ، أكثر مما حققه الغرب كله فى أكثر من خمسة قرون ، وبدون أن تحتل أحدا ، أو أن تبيد بشرا خارجها كما فعلت أوروبا وأمريكا ، وراحت الصين تراكم إنجازاتها ، وإلى أن هزمت أمريكا فى حرب العولمة الاقتصادية ، وألجأت واشنطن إلى الاختباء وراء حواجز حمائية وتعريفات جمركية عشوائية ، لم تنجح فى إنقاذ الاقتصاد الأمريكى المدين الأول فى العالم كله ، بينما تحولت الصين إلى موقع المقرض والمانح الأكبر لبلاد الدنيا كلها ، ونفذت أكبر عرض عسكرى فى التاريخ ، تلاه أعظم عرض تكنولوجى وعلمى فى حرب "كورونا" ، وأثبتت الصين أنها الأقوى مناعة فى العالم الجديد ، الذى يتخلق اليوم ، وبحبر وختم ونفس صينى تماما ، وعلى نحو يكاد يجعل أوروبا اللاتينية كأنها "أوروبا صينية" .
Kandel2002@hotmail.com