تحل اليوم 24 مارس ذكرى وفاة هارون الرشيد الخليفة العباسي الخامس، والذي يعتبر من أشهر الخلفاء العباسيين، وأكثرهم ذكرا حتى في المصادر الأجنبية كالحوليات الألمانية في عهد الإمبراطور شارلمان التي ذكرته باسم ارون، والحوليات اليابانية والصينية التي ذكرته باسم الون.
 
وأفاضت المصادر العربية الكلام عنه لدرجة أن أخباره قد امتزجت فيها حقائق التاريخ بخيال القصص، ولا سيّما كتاب "ألف ليلة وليلة" التي صورته بالخليفة المسرف في الترف والملذات، وأنه لا يعرف إلا اللهو وشرب الخمور ومراقصة الغانيات.
 
والواقع، بحسب بعض التقارير، أن هذا الخليفة كان من خيرة الخلفاء فقد كان يحج عامًا ويغزو عامًا، وذكر أنه كان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات، ويتصدق بألف، وكان يحب العلماء، ويعظم حرمات الدين، ويبغض الجدال والكلام، ويبكي على نفسه ولهوه وذنوبه، لا سيما إذا وعظ.
 
وقد تم فتح الكثير من البلدان في زمنه، واتسعت رقعة الإسلام واستتب الأمن وعم الرخاء وكثر الخير بما لا نظير له ثم إن هذا الخليفة كان حسن السيرة والسريرة.
 
كذلك كان يصور بصورة الخليفة الحذر الذي يبث عيونه وجواسيسه بين الناس ليعرف أمورهم وأحوالهم، بل كان أحيانًا يطوف بنفسه متنكرًا في الأسواق والمجالس ليعرف ما يقال فيها.
 
والواقع هذه الصورة المتباينة للرشيد ما هي إلا انعكاس للعصر الذي عاش فيه بمحاسنه ومساوئه، وهو العصر العباسي الأول أو العصر الاسلامي الذهبي. وقد تميز عصره بالحضارة والعلوم والازدهار الثقافي والديني، وأسس المكتبة الأسطورية بيت الحكمة في بغداد، وبدأت بغداد خلال فترة حكمه بالازدهار كمركز للمعرفة والثقافة والتجارة.
 
وهارون الرشيد هو ابن الخليفة محمد المهدي من زوجته الخيزران بنت عطاء التي كان لها نفوذ كبير في الدولة، ولد هارون عام 149 هـ (766م) في مدينة الري التي أصبحت جزءاً من إقليم الجبال في فترة الدولة العباسية. وكان والده واليًا على المدينة. تربى الرشيد مع أولاد الأمراء والقادة في الدولة العباسية ومع إخوته بالرضاعة، الفضل وجعفر أولاد يحيى البرمكي الذي صار له مكانة عظمى بالدولة العباسية، وفي عام 151 هـ وبعد وفاة جعفر الابن الأكبر للخليفة أبو جعفر المنصور عادت أسر المهدي إلى بغداد، وقد أصبح المهدي وليًا للعهد.
 
وعاش الرشيد طفولة هادئة ومستقرة في ظلّ رعاية والده وجده، وكان ممن تولى تربيته وتعليمه عالم النحو علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي الكوفي المعروف (الكسائي)، الذي ظل معه حتى وفاته ثم صار أيضًا معلمًا لابن الرشيد محمد الأمين. كما تولى تربيته وتعليمه المعلم المفضل الضبي الذي صنف للمهدي كتاب "المفضليات".
 
في عام 158 هـ توفي أبو جعفر المنصور وأصبح المهدي في منصب الخلافة ودفع بابنه هارون للتدرب على الفروسية والرمي وفنون القتال، وقال محمد بن علي الخراساني: "الرشيد أول خليفة لعب بالصوّالجة والكرة، ورمى النشاب في البرجاس، وأول خليفة لعب بالشطرنج من بني العباس".
 
عندما أصبح هارون شابًا يافعًا، عينه والده قائدًا في الجيش الذي يضم العديد من قادة الكبار وأمراء الدولة، وكان عمر هارون وقتها لا يتجاوز الخمس عشر عامًا، وخرج الجيش عام 163 هـ إلى أراضي الروم وتوغل فيها وأظهر هارون براعة في قيادته وحاصر قلعة رومية اسمها "سمالوا" ثمانية وثلاثين يومًا حتى انتهى الأمر بفتحها، وعاد الرشيد بالجيش سالمًا محملًا بالغنائم، فاستقبله أهل بغداد وكافأه المهدي بتوليته بلاد أذربيجان وأرمينية.
 
وفي عام 165 هـ تزوج الرشيد ابنة عمه زبيدة بنت جعفر، وبعد الزواج بفترة قصيرة، أرسله والده المهدي لقيادة جيش آخر لغزو الروم، مكون من 95,793 رجل. وصل جنود الرشيد خليج البحر المطل على القسطنطينية، وكانت حاكمتهم يومئذ أيرين زوجة أليون الملقبة (أغسطه)، وهي وصية العرش لابنها قنسطنطين البالغ من العمر تسع سنوات، فطلبت الصلح من الرشيد، بعد أن رأت القتل في الروم، على أن تدفع له سبعين ألف دينار كل سنة، فقبل ذلك منها وأرسلت معه الهدايا لوالده الخليفة المهدي وتعاهدت مع الرشيد على هدنة ثلاث سنين.