كتب – روماني صبري 
يعد الروسي "نيقولاي غوغول" من أعظم كتاب الروايات والمسرحيات، فهو الأب الروحي لكتاب الأدب الواقعي  في القرن التاسع عشر، حيث تأثر به " فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي"، كان يرى غوغول إن الرواية لا يجب أن تتناول القصص الرومانسية، والوعظية الخطابية فقط والتي انتشرت في العالم قبل أن يطأ بأقدامه عالم الكتابة، فغاص في النفس البشرية وكشف ما هو الألم الروحي في قصته "المعطف"، والتي أبدى دوستويفسكي إعجابه الشديد بها، كما قال عنها الأديب "تورغينيف" :" تأثرت بها جدا ... لذلك جميعنا خرجنا من "معطف" غوغول." 
 
يتحدث غوغول في "المعطف" عن  "اكاكي اكاكيفيتش" موظف فقير يحلم بحياة طبيعية لا تداس فيها كرامته ولا يتعرض للسخرية والاستهزاء من قبل الآخرون... بعد عناء طويل ينجح اكاكيفيتش في تحقيق أحد أحلامه فيفصل معطف جديد فتنزل بروحه السعادة، كونه شعر انه بات يعيش كباقي البشر الطبيعيين، وعلى حين فجأة يسرق المعطف، فتتحول حياته إلى جحيم، وترجم غوغول معاناة الرجل التي انتهت بموته وحيدا بقوله :"  أحس كيف نزع المعطف منه، وجهت إليه ركلة وقع على أثرها في الثلج على ظهره ولم يحس بشيء أكثر من هذا، وبعد بضع دقائق صحا على نفسه واستوى على قدميه، ولكن لم يعد احد موجودا لقد أحس أن الجو بارد وان المعطف غير موجود فجعل يصرخ، ولكن بدا أن الصوت لا يبلغ أطراف الساحة فركض مستميتا دون أن يكف عن الصراخ... مات الفقير ودفن كأي نَكِرةٍ أو حَشَرة في المجتمع... حتى دون أن يعلم به زملاؤه في المديرية حيث كان يعمل. 
 
وهكذا زال واختفى إلى الأبد إنسان لم يفكر أحد من الخلق في حمايته، ولم يكن عزيزاً على أحد، ولم يكن أحد يهتم بأمره لا من قريب ولا من بعيد، ولا حتى عالم التاريخ الطبيعي الذي لم يكن ليقاوم غرز دبوس في جناح ذبابة منزلية وفحصها تحت مجهره، إنسان تحمل هزء وسخرية زملائه من غير أن يتذمر ويعبر عن احتجاجه، إنسان ذهب إلى مرقده الأخير بلا أدنى ضجة، ولكن مع ذلك بالرغم من أن ذلك ليس قبل أيامه الأخيرة .. ظهر فجأة زائر مضيء على هيئة معطف، ليضيء حياته البائسة لمجرد لحظة خاطفة، مخلوق حلت به نكبة قاسية كما تعصف النكبات بالملوك وعظماء البشر على هذه الأرض." 
 
لم تنتهي القصة بموت "اكاكي اكاكيفيتش"، بل استكملها غوغول بأسلوبه الكوميدي الساخر الزاخر بالخيال، والخيال في كتاباته، غير الخيال المألوف لدى الكثيرين، حيث استخدمه غوغول، في قصته حتى يثأر اكاكي لنفسه، ويعلن تمرده بعد موته، بالمعطف الذي ينهض ويتحدث بروح الرجل، أكررها ثانية :" لم يمتلك الأدباء الروس الذين جاءوا قبل "غوغول" وبعده رغم عظمتهم أسلوبه الساخر، في أعماله يستطيع أن يؤلمك ويضحك في الوقت ذاته، كونه الأب الروحي أيضا لما يعرف بالسخرية السوداء، والتي ميزته عن هؤلاء العظماء الروس أمثال  "دوستويفسكي" ،"بوشكين"، "تولستوي"، "بولجاكوف"، "باسترناك"، وغيرهم ، ولما لا وهو صاحب أعظم روايات العالم "الأنفس الميتة"، الذي احرق الملجد الثاني منها بعد أن انتظره العالم ، بعدما أقنعه أحد المتدينين أن الكتابة تغضب الرب ، فنزل به الحزن وزهد الطعام والضحك أرضاء لله حتى يظفر بملكوته ، ليموت شابا عام 1852.
 
شهد 1 ابريل عام 1809 ولادة غوغول في قرية سورتشينتسي قرب مدينة بولتافا الأوكرانية، أحب في صغره الكيفية التي يعيش بها فلاحين الريف الأوكراني، التابع للإمبراطورية الروسية وقتها، وكذا عادات شعب القوزاق و فولكلوره الغني، تربى غوغول في كنف والده كاتب مسرحيات من وحي الفلكلور الأوكراني، دخل المدرسة العليا في نيجين، وظهرت مواهبه  الأدبية والفنية في سن الثانية عشرة، ونشر له أشعار في مجلة هناك، وكان قد قلد العجائز في مسرح المدرسة بطريقة كوميدية.
 
ترك غوغول العاصمة سانت بطرسبورج  عام 1828، بعدما تخرج من المدرسة، وشرع يبحث عن بالحكومة، لكنه باءت كل محاولاته بالفشل، فعانى من نقص المال، ففكر في العمل بالتمثيل، إلا انه فشل في اجتياز الاختبارات، فقرر أن يكتب شعرا، وبالفعل طرح ديوان شعر عاطفي نشره على نفقته الخاصة، لكنه لم يحقق أي نجاح، فجمع كل النسخ وحرقها، ليفكر بعدها في ترك روسيا والذهاب إلى الولايات المتحدة، وعلى مركب ذهب الرجل إلى ألمانيا، حتى يتجه من هناك إلى أمريكا، إلا انه أفلس، لم يجد في جيبه ما يكفي ليستكمل رحلته إلى أمريكا، فعاد إلى سانت بطرسبورج، وراح يبحث عن عمل، ليجد وظيفة حكومية براتب بسيط، بعد مرور ثلاثة أشهر استطاع العمل في وظيفة حكومية ثانية، ولكنه تركها أيضا بعد مرور عام ليدرس التاريخ في مدرسة داخلية للبنات.
 
طرح غوغول في مطلع 1831 المجلد الأول لقصصه الأوكرانية "Evenings on a Farm Near Dikanka"، ليصيب المجلد نجاحا عظيما، تلى ذلك مجموعة من القصص، وفي العام 1834 اختير ليكون أستاذا في تاريخ العصور الوسطى في جامعة سان بطرسبرج رغم انه لم يكن يمتلك المؤهل الذي يؤهله لشغل هذه الوظيفة فتركها، تأكد غوغول انه كاتب فريد واستثنائي حين أنهى   مسرحيته الكوميدية الهزلية الساخرة " المفتش العام"، وفيها سلط الضوء على البيروقراطية الروسية.
 
حين غيب الموت شاعر روسيا العظيم " ألكسندر بوشكين"، نزل الحزن بقلب غوغول، كونه يعشق الرجل ويكن له أشد أغلظ الاحترام، وربما ترجم حزنه ذلك في روايته الأعظم " نفوس ميتة"، بسخرية سوداء، حين عاد غوغول من الحج في القدس عام 1848 ظل يتنقل كثيرا بين البلاد، مع سيرجي أكساسوف وميخائيل بوجودن، في نفس الفترة تعرف على راهب أرثوذكسي اسمه"ماتفي كونستانتينوفسكي"، فاخبره أن الله لا يحب الفنانين وسيهلكهم، لاسيما هو كون أبطاله يمارسون الخطايا، فتسلل الرعب من الجحيم إلى قلبه، فتدهورت صحته حتى بات نحيلا، كونه مارس عبادات قاسية ليدخل بعدها في نوبة اكتئاب شديدة، وحتى يرضى الله عنه "كما فهم من "كونستانتينوفسكي" راح يحرق مخطوطة كانت تضم المجلد الثاني من رواية "نفوس ميتة"، لازم بعدها الفراش وقرر عدم تناول الطعام حتى وافته المنية في نفس العام.