عادل نعمان
«.... مات حبيبكم ودفناه بمعرفتنا، فى مقبرة جماعية.. البقية فى حياتكم إن كان لكم فى العمر بقية..» يا إلهى.. هل يحملونه علينا كما حملوه على غيرنا خبر الموت، فلا يعرفون لنا مستقراً أو مقاماً؟ وهل نصعد إلى بارئنا كما صعدوا دون نحيب أو عويل أو حتى بكاء ساكت صامت؟ لم نعد نحسب أن للعمر بقية بعد اليوم، وأن له يوماً فى الغد، يليه يوم فى الشهر القادم، ويليهما يوم فى نفس العام، وأن غاية أمانينا أن يمر اليوم وأنفاسنا تتلاحق دون عجلة، أو مكتومة دون زوال، وأن نملأ بيوت النمل بغذائنا حتى يأتى إلى وادينا «كورونا» فتدوسنا وتحطمنا دون وداع أو فراق، ويفر الناس من العزاء، كل سيناريوهات الموت تراودنى منذ عرفت طعم الموت فى بيتنا، وكلما سمعت عن موت عزيز أو حادث لقريب أو سمعت عن موت غريب، إلا موت هذا الحبيب، مات بجوار كورونا، وحيداً معزولاً، منبوذاً مهجوراً، يفلت الناس ويهربون منه حياً، ويودعونه من بعيد ميتاً إذا سمحوا له وتركوه لحظات، وربما كان من وراء حجاب، هل يا ترى هذا الحبيب قد مات فعلاً؟ هل دفنوه وفيه بقية من حياة خافتة لم تدركها سماعة الطبيب؟ وهل عجّلوا فى دفنه حتى يفيقوا إلى غيره من زحمة الأموات؟ كانوا يقولون لنا من الحكمة أن يتم الدفن بعد ثمانى ساعات من الوفاة، فربما كان فى الأنفاس بقية مختبئة بين الضلوع، تطل برأسها بعد الرجاء، هل يا ترى قد نفذوا وتيقنوا؟ فى بلادنا لا يثقون فى الموت إلا بالصراخ والعويل واللطم على رأس الميت، فإن كان فيه بقية عاد، حبيبكم هذا ربما كان يئن فى صمت، ويخفق قلبه فى همس، والصوت محبوس مكتوم، هذا موت الوحدة والغربة، حتى لو كانت هامدة، ألفة الدفن ولمة الناس وبكاء الأحباب حولك وداع مهيب وناعم، يغادر الإنسان والجميع مطمئن أنها ضرورة لا رجعة فيها ولا توسل ولا استجداء، يثبت الموت بالعجيج والعويل والنواح، الراحة فى الموت أن تعرف مستقر الأحباب، هنا يرقد على رجاء، عرفت الآن لوعة المجهول، والأرض المجهولة، هاهنا الجد والأب والعم، الغربة فى الموت موت آخر.

كنت فى وصيتى لأولادى أوصيهم بعزاء فخم، وغذاء وعشاء، ومشروبات ساخنة، وجنازة مهيبة يحصون ويعدون فيها الأصدقاء والأحباب، من تخلف منهم، ومن بكى وانتحب، ومن واسى على عجل ومن صدق وجلس لآخر ربع فى العزاء، وقد كنت حريصاً على مواساة الأحباب، مفرطاً فى التعازى، صادقاً فى الحضور حتى يرانى كل الأهل والأحباب والأصدقاء، فأغادر محل العزاء عن طيب خاطر، مطمئناً لرصيدى عند هؤلاء ليوم كان معلوماً، يتزاحم الناس فيه لتقديم واجب العزاء، ويلتزمون بالجلوس كما جلسنا من قبل. يضحك ابنى حين ألح عليه أن يكون فى الجنازة مسئول كبير، يتصدر صفوف المشيعين، أو ساحة العزاء، على قدر ما تطوله يديه أو يد أحد من الأصدقاء أو الأهل، ربما يكون الونش المصاحب لجنابه، مظهراً من مظاهر العظمة والأبهة، يذكرنى ابنى بالوصايا الآن ويتساءل أما زلت ممسكاً على رأيك؟ نتبادل الضحكات ولسان حالى يقول وأخفيه: غاية المُنى أن نفلت من هذه الميتة، وأوصيك بلا عزاء أو مسئول كبير أو صغير حتى الونش لا حاجة لنا به، كل الرجاء أن يموت الواحد منا على سريره ووسط أهله، وإياك أن تنسى فقط أن تتأكد أنها موتة أكيدة، ولم تكن إيماءة أو نوبة أو غيبوبة.

العالم لا يقف على رجل واحدة من الخوف، حتى أطمئن على حياتى أو مماتى، بل هو واقف فى الهواء، بلا جاذبية، غاية أمانيه أن يوفر للناس الأقنعة الواقية، أو أجهزة التنفس الصناعى، أو أسرّة فى المستشفيات الميدانية فى الشوارع، وربما يلجأون إلى طب الحروب، وهو علاج البعض وترك الآخر للموت، وهى نظرية الفاجعة، يتركون القريب إلى الموت ليموت، والقريب إلى النجاة يحاولون معه إلى حين، وربما ينتخبون بعد هذا للحياة البعض ويتركون الآخر، ويبدو أنه لن يحتمل العالم هذه المواجهة الساخنة، فيقررون عودة الحياة مرة أخرى لسابق عهدها دون حظر أو منع، ويموت من يموت ويحيا من كان قدره ونصيبه الحياة، ولا يهم أن يفقد العالم الملايين كل يوم، حتى حين.

المهم ستمر المحنة كما مرت كل المحن، بالآلاف من الموتى أو بالملايين، وسيولد ويلحق بالكرة الأرضية أكثر مما مات، وليس مهماً أن نكون جميعاً من هؤلاء، فمن صلبنا وأولادنا وأحفادنا من سيعوض هذا الفاقد، ويملأون الدنيا خلفة وضجيجاً، ويترحمون على من مات، أو لا يترحمون، وسيجلس التلاميذ يوماً يقرأون عن جائحة كورونا فى القرن الواحد والعشرين كما قرأنا عن الكوليرا، والملايين التى ماتت ودُفنت فى مقابر جماعية، بعد حرقها بالجير، نقرأ ونحزن على حالهم، إلا أن المهم فى وقتنا هذا أن نلتزم ونطيع ونستجيب لكل التعليمات والقرارات، حتى تمر الأزمة بأقل خسائر ممكنة، علينا وعلى العالم، اللهم نجّنا جميعاً من هذا البلاء، حتى نتقبل العزاء فى هدوء، ويعرف كل منا مستقر الأحباب وفى أى أرض نموت، وينفذ الأولاد الوصايا عند الرحيل الهادئ.. سلمتِ يا بلادى من كل سوء.
نقلا عن الوطن