د سامي عمارة -اعداد سليمان شفيق
كتب د سامي عمارة في  الاهرام و"البشاير" وتحت عنوان :" الدستور الروسي الجديد يعلن الإيمان بالله".

 تحولت مشاورات ومداولات التعديلات الدستورية في روسيا، الي مظاهرة حب ووفاء للرئيس الحالي فلاديمير بوتين، وللوطن بترابه ووحدة أراضيه، وحدوده التى نصت التعديلات الدستورية الجديدة على “قدسيتها وحرمتها وعدم جواز المساس بها”.

ولم تتوقف الخطب والكلمات التي تشيد بالرئيس وتؤكد الاستعداد لبذل الغالي والنفيس من أجل تقنين استمراره رئيسا للبلاد مدي الحياة، وإذا ما تطلبت اللياقة والكياسة مراعاة “النظم والتقاليد الغربية” فلا مانع من ذلك، من خلال ” تصفير” المدد الدستورية للرئاسة، ما يعني عدم حساب المدد السابقة، وشريطة تقنين حق كل مواطني روسيا دون استثناء، بمن فيهم بوتين، الترشح للانتخابات الرئاسية، فضلا عن الابقاء على شرط تحديد الفترات الرئاسية بولايتين وفقط، بما يعني عمليا ترك الباب مفتوحا لخوض بوتين الانتخابات الرئاسية، والبقاء رئيسا حتي عام 2036.

تعليقا على “سخرية” الممثل “الهزلي” ماكسيم جالكين حول ان اسم “بوتين” ليس لقبا، بل هو أقرب الى “الوظيفة”، قال الرئيس بوتين في حديثه الى وكالة “تاس” “ان ذلك يمكن ان يقوله الانسان الذي لا يشغل اي وظيفة”. ومضى بوتين ليؤكد انه لا يتعلق بأهداب

السلطة، ولم يتخذ حتى اليوم قراراً حول الترشح في الانتخابات المقبلة في عام 2024، مؤكدا ان الشعب هو “المصدر الحقيقي للسلطات”، وهو الذي يتخذ القرار. وأضاف بوتين انه “يعمل كل يوم، ولا يعيش “حالة القيصر”!.

جاء ذلك في أعقاب ما شهدته قاعات البرلمان بمجلسيه الاتحاد والدوما، من تدفق للاقتراحات المصحوبة بالمبررات التي راح النواب يسوقونها تأكيدًا لضرورة بقاء الرئيس في سدة الحكم في الكرملين، لكن وإذا تعذر ذلك لأسباب أو لأخري، فلا ضير من البحث عن المقعد الملائم لبقائه علي مقربة، للاستعانة به وبخبراته وحكمته، اذا استدعت الحاجة لذلك كما قالت فالنتينا تيريشكوفا عضو مجلس الدوما وأول رائدة فضاء في العالم.

وثمة من يقول ان الاختيار “غير المعلن” وقع على تيريشكوفا تحديدا لأسباب تعود إلى “تاريخها الحزبي المفعم بالوفاء للوطن”، مع ضرورة “الترويج” لفكرة ان تيريشكوفا أعلنت عن مبادرتها من تلقاء نفسها ودون التنسيق مع اية قيادات حزبية أو سياسية.

 وللحقيقة فقد أبلت تيريشكوفا أحسن البلاء، لدى تقديمها لإقتراحها “المفاجئ” الذي طالبت فيه بالابقاء على بوتين “رئيسا مدى الحياة” من خلال تعديل المادة الدستورية التي كانت تحدد عام 2024 تاريخا نهائيا لرحيله عن السلطة، وإعلان التعديل الذي يسمح للرئيس بالترشح مجددا، بموجب المادة التي تسمح أيضا ببقائه رئيسا لفترتين أخريين اي حتى عام 2036.

 ولم تكتف تيريشكوفا بذلك، بل وعادت لتُصْلِي منتقديها وكل المعارضين لاستمرار بوتين رئيسا للدولة، بسيل من الاتهامات التي يرقي بعضها حد “التشكيك في الوطنية والولاء للوطن”، دون ان تنسى كَيْل الاتهامات للدوائر الخارجية التي لا تكف عن التدخل في شئون روسيا الداخلية، وتغذية الميول المعارضة في روسيا “بسبب ما يعتمل في النفوس من غضب وسخط ضد الاجراءات التي تجعل روسيا أكثر قوة”.

وفيما سارع أعضاء مجلسي الاتحاد والدوما الى مباركة هذا الاقتراح والتصويت عليه باجماع كتلة الحزب الحاكم “الوحدة الروسية”، والمؤيدين من كتلتي “الحزب الليبرالي الديموقراطي”، وحزب “العدالة الروسية”، كشفت نتائج التصويت عن امتناع كتلة الحزب الشيوعي عن التصويت على القرار، مع غياب 24 نائبا عن الجلسة، فيما لم تتعد أصوات المعارضين في مجلس الاتحاد ثلاثة لا غير.

وكان بوتين إستبق هذه الفعاليات بخطاب حاول من خلاله تبرير ضرورة التعديلات الدستورية، مؤكدا في تعليقه على إقتراح بقائه في السلطة، أن لا “مَطْمَحَ” له في السلطة، وانه في حال الضرورة وحتمية ان تحظى التعديلات الدستورية بالاغلبية في الاستفتاء المرتقب على التعديلات الدستورية في 22 ابريل القادم ، يرى “إحتمالات” الموافقة على الترشح مجددا.

وربط بوتين أيضا بين الموافقة على ترشحه وشريطة وجود المنافسين على المنصب، وضرورة الابقاء على تحديد مدد الرئاسة في التعديل الجديد بمدتين، دون الاشارة الى “ان يكونا متواليتين”. وللمزيد من محاولات التحلي بالموضوعية وإنكار الذات، قال بوتين بضرورة الابقاء على “السلطة الرئاسية القوية التي تحتاجها دولة بمثل تاريخ روسيا”، مشيرا الى عدم تناسب النظام البرلماني للرئاسة مع ظروف روسيا، وحاجتها الى عقود طويلة لظهور الاحزاب القادرة على تحمل أعباء النظام الرئاسي البرلماني، وإن عاد ليؤكد ثانية ضرورة الابقاء على تحديد فترات الولايات الرئاسية بولايتين نظرا “لأن تداول السلطة مسألة ضرورية لضمان ديناميكية تطور الدولة”، على حد تعبيره.

وأضاف الرئيس بوتين أن رئيس روسيا مدعو لضمان أمن واستقرار البلاد وحمايتها من “ظاهرة الثورات” التي شهدت روسيا الكثير منها، وبما فيه الكفاية ،على حد تعبيره. وإستطرد ليؤكد ضرورة مراعاة “الشكل” وأهمية طرح نتيجة الاستفتاء في حال حصول التعديلات على موافقة الاغلبية اللازمة، على المحكمة الدستورية العليا بما يضمن لاحقا عدم التشكيك في النتائج، وهو ما تحققر بالفعل وأقرت “المحكمة الدستورية مشروعيته وعدم مخالفته للقوانين والتشريعات الروسية”.

 ومضى الرئيس الروسي إلى ما هو أبعد حين قال بضرورة “ألا ترتبط السلطة الرئاسية في روسيا بشخصية معينة واحدة”، فضلا عن حتمية “التنافسية”، او بقول آخر ترشح منافسين آخرين. على ان هناك أيضا ما يستحق التوقف عنده لما يتسم به من اهمية كبرى، وهو ما يتمثل فيما أعلنه بوتين حول ضرورة ان يتضمن الدستور الروسي ما ينص على “أولوية الدستور الروسي على قواعد القانون الدولي”، في إطار ما أكده حول “ان الالتزامات التشريعات والمعاهدات الدولية، وكذلك قرارات الهيئات الدولية لا يمكن ان تسرى داخل أراضي روسيا الاتحادية، إلاً في حال عدم تأثيرها على حقوق وحريات الانسان والمواطن، وعدم تعارضها مع دستورنا”.  وكان بوتين طالب أيضا بالالتزام بما ينص عليه الدستور الروسي حول ضرورة طرح كل هذه التعديلات التي أقرتها المجالس التشريعية الفيدرالية والمحلية، على المحكمة الدستورية العليا، والحصول على إعتمادها وتأكيد عدم تناقضها مع بنود الدستور الروسي.

غير انه وإحقاقاً للحق، فان التعديلات الدستورية لم تقتصر على المواد المتعلقة بالرئيس وما يتعلق بعدد فترات الرئاسة، ومستقبل بوتين كمرشح محتمل في الانتخابات المقبلة في 2024، بل وتعدتها لتشمل مختلف مجالات الحياة بما فيها دعم الصحة والتعليم والاسرة، وما يتعلق بعدم الاعتراف بـ”المثلية” والنص صراحة على ان الأسرة في روسيا “هي زواج بين الرجل والمرأة”، وإن لم تتعرض لما يسمى بـ”الزواج العرفي”(غير المسجل في سجلات الاحوال المدنية).

وذلك إلى جانب تحديد الحد الادني للاجور والزيادات السنوية للمعاشات التقاعدية، وتأكيد قدسية وحرمة حدود الدولة وعدم التفريط في أي من أراضيها، في إشارة لا تخلو من مغزى إلى التوقف عن مواصلة المباحثات مع اليابان حول مستقبل “جزر كوريل” المتنازع حولها بين البلدين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وعدم الدخول في أي مباحثات تتعلق بشبه جزيرة القرم التي تعتبرها روسيا اليوم جزءً لا يتجزأ من أراضيها.

الدستور الروسي الجديد يعلن الإيمان بالله
 ونضيف أيضا ما احتدم حوله الجدل بشأن الاشارة الى “الايمان بالله” لاول مرة في الدستور الروسي. وكان فياتشيسلاف فولودين رئيس مجلس الدوما كشف عن ان التعديلات المراد إدخالها على مواد دستور روسيا الاتحادية ومنها النص على ضرورة النص على “إيمان الشعب الروسي بالله”.

 وقال فولودين ان أحد التعديلات التي اقترحها الرئيس بوتين تتضمن الاشارة الى وجوب ان ينص الدستور في فصله الثالث (67.1) على ان “روسيا الاتحادية الموحدة على مدى تاريخها الذي يمتد لآلاف السنين ، تؤكد الحفاظ على ذكرى الاجداد الذين تركوا لنا “المُثُلْ والقيم والمعتقدات والايمان بالله”، وضرورة استمرارية تطور الدولة، والاعتراف بتاريخية وحدتها”.

وتعليقا على ما إحتدم من جدل حول هذا الموضوع، نقلت وكالة أنباء “تاس” عن دميتري بيسكوف الناطق الرسمي باسم الكرملين ما قاله حول “أنه من الواضح أن الدولة لا يمكن وبأي حال من الاحوال أن تفقد علمانيتها. فالنص يؤكد الحفاظ على ذكرى ما تركه لنا الاجداد من مُثُل وتمسك بالايمان بالله” . وأكد بيسكوف ان روسيا تظل “دولة علمانية”، رغم الاقتراح الخاص بالتعديل الدستوري، لان الحديث يدور حول المُثُل والمعتقدات العامة للشعب الروسي. ومضي الناطق الرسمي ليقول ان الجدل الذي يحتدم حول هذا النص لا يعني إمكانية العودة عن التعديل الذي قدمه بوتين، وان الامر قد يتعلق فقط بإحتمالات تفسير المراد من تعديل هذه المادة، وتحديد “أي إله يقصده بوتين”، وماهية الموقف اللاحق من الملحدين في حال إقرار هذه المادة، على حد تعبير وكالة أنباء “تاس”.

وفي الوقت الذي تعالت فيه أصوات المعارضة “منزوعة الفعالية” في روسيا، معلنة عن موقفها الرافض للتعديلات الدستورية الجديدة ولا سيما في موادها التي تفتح الباب أمام بقاء بوتين على رأس الدولة حتى عام 2036، واصل أبرز رموز القيادة السياسية في روسيا توجيه اتهاماتهم إلى كل من أعلن رفضه، أو إنتقد تيريشكوفا أول رائدة فضاء سوفيتية التى تولت مهمة طرح المبادرة المحورية حول إمكانية إعادة ترشح بوتين في انتخابات 2024.

 وقد تصدر هؤلاء فياتشيسلاف فولودين رئيس مجلس الدوما الذي وصف منتقدى تيريشكوفا بانهم “يكرهون روسيا”، فيما قال صراحة “ان ثروة روسيا ليست في النفط والغاز، بل هو بوتين- الثروة القومية لروسيا ، وهو الذي يجب ان ندافع عنه”. وفي هذا الصدد يتذكر المراقبون، ما سبق وقاله فولودين من موقعه السابق كنائب أول لرئيس ديوان الكرملين حول ان ” وجود بوتين يعني وجود روسيا، وعدم وجود بوتين يعني عدم وجود روسيا”. وذلك كله ما تتناوله الدوائر الغربية بكثير من النقد والسخرية، فيما راحت وسائل إعلامها تشن حملاتها الدورية ضد بوتين الذي راحت تصفه بالدكتاتور، وتضعه في مصاف زملائه من رؤساء عدد من بلدان الكومنولث ومنهم نورسلطان نزاربايف في قزخستان، وألكسندر لوكاشينكو في بيلاروس، وهو ما يحتدم حوله الجدل في الساحة الروسية بين مؤيد ومعارض، وإن تلاشت أصداء هذا الجدل في غِمَار الحملات الاعلامية التي تتواصل تحذيرا من أخطار تفشي وباء “الكورونا”.